حكايات رمضانية.. خطة محكمة للفرار
في الليلة قبل الأخيرة من ليالي رمضان.. كان أبو عناد يروي لي سيرة الرجل المأزوم أبو سمير الترمزاوي، الجالس قريباً منا في المقهى يدخن ويشرب الشاي بشراهة، قال:
- أراد أبو سمير، الذي تهدده عائلةُ "أبو صدفة" بالقتل (لأن ابن عمه قتل ابنَ عمهم)، أن يخرج من الأزمة، فاستدعى مغسل الأموات في القرية، "أبو شعيب"، وقرر إرساله في مهمة محددة، ولكي يشجعه سأله:
- كم تقبض أجرة تغسيل الميت الواحد يا أبو شعيب؟
- يعني، لا أقل من 25 ليرة، ما عدا أقراص اللحم بعجين والشعيبيات.
- سأعطيك أجور تغسيل أربعة أموات، مائةَ ليرة سورية، حلالاً زلالاً، شريطة أن تفتح أذنيك، وتفعل ما أقوله لك بالحرف. أريدك أن تذهب إلى مضافة الحاج عبدو أبو صدفة، وتوصل إليه كلاماً.
- حاضر. ما هو الكلام؟
- قل له: يا عمي الحاج عبدو.. يبلغك أبو سمير الترمزاوي أنه فكر بما بلغه عنكم، وهو أنكم تريدون قتله، وهو متفهم لوجهة نظركم القائمة على إعفاء القاتل الحقيقي من الثأر، وقتل إنسان لا علاقة له بالموضوع مكانه! وقل له أيضاً إن أبو سمير يرى أنكم على حق، فإذا قتلتم الشخص الذي قتل ابن عمكم "علي أبو صدفة"، وهو عثمان الترمزاوي، ماذا ستستفيدون؟ عثمان رجل لا قيمة له، أما إذا قتلتم أبو سمير، فهذا فعل يُثلج القلوب، ويهدئ الضمائر، لأن أبو سمير رجل محترم ذو قيمة.
بدا أن أبو شعيب لم يفهم الكلام تماماً. فاضطر أبو سمير أن يقول:
- يجب أن تفهم أنت الموضوع أولاً، عسى أن تستطيع نقل الرسالة بشكل جيد، ودون تخبيص. الموضوع هو أنني رجل ذو قيمة، ولنفترض أن واحداً من عيلة "أبو صدفة" قتلني، هل يعقل أن ينتقم لي أهلي من الحاج عبدو أبو صدفة، باعتبار أنه شخص لا يساوي ربع ليرة سورية؟ هذا ليس عدلاً..
صرخ أبو شعيب: اسمع خيو. أنا علي الطلاق لم أفهم شيئاً، ولذلك سامحتك بأجرة تغسيل أربعة أموات، ولا أريد أن أنقل رسالتك لأحد. اذهب أنت بنفسك واشرح للحاج عبدو أبو صدفة ما تريد. السلام عليكم.
وخرج.
قلت لأبو عناد: الحق على أبو سمير، ألا يعرف أن هذا أبو شعيب رجل غبي، ومسكين؟
- بلى، يعرف. ولكن غباء أبو شعيب أفاده كثيراً. فقد أعجبه قوله (اذهب أنت بنفسك واشرح للحاج عبدو أبو صدفة ما تريد)، وبدأ يفكر، وما إن دخن ست أو سبع سكائر، مع أربع أو خمس كؤوس من الشاي، حتى نضجت في رأسه.
- أية فكرة؟
- توقف عن التدخين وشرب الشاي، ونام نومة عميقة وطويلة، حتى نزل الليل على قرية الردادة، فاستيقظ، ودخن، وشرب شاياً، ثم لف حول رأسه شماغاً حتى لم يعد يظهر منه سوى النظارتين اللتين أمام عينيه، ومشى. وصل إلى مضافة عائلة "أبو صدفة"، دخل، وقال السلام عليكم. رد الجميع، وعليكم السلام. وتقدم حتى وصل إلى حيث يجلس أبو عبدو كبير العائلة، في صدر المضافة، وجلس بجواره، ورفع الشماغ عن رأسه، وقال: تفضل يا حاج عبدو، أنا أبو سمير الترمزاوي، وهذه رقبتي. اختاروا الطريقة التي تناسبكم أنت وجماعتك، واقتلوني بها!
حصل لغط كبير في المضافة، وانقسم الحاضرون بين أحمق متسرع يريد أن يباشر بقتل أبو سمير، أو على الأقل دعوسته بالأرجل، وعاقل متزن يكره القتل والعنف أساساً، وفريق ثالث يتحدث عن النخوة، وجيرة الملهوف، وأن الرجل صار في مضافتنا، يعني بحمايتنا.
صاح بهم الحاج عبدو. ساد الصمت. بادر أبو سمير إلى القول:
- أنا أعرف أن دخولي إلى هنا سيسبب لي ولكم كل هذه المشاكل، ولكنكم، من يوم أن قُتل ابن عمكم المرحوم "علي أبو صدفة"، تذهبون إلى بيوتكم، وتمارسون حياتكم اليومية، وتنامون بسهولة، وأما أنا فلا أنام، لأنني أتوقع أن يعتدي علي واحد منكم، في مكان ما، وبطريقة ما، فيقتلني بالفعل، أو تفشل محاولته، فأذهب إلى المستشفى، وربما أصاب بعاهة دائمة. ومن كثرة ما دخنت صار صدري مثل بوري الصوبيا، ونقص وزني أكثر من خمسة كيلوغرام. نحن اعتدنا في هذه القرية التعبانة على العنتريات الفارغة، وعلى الغدر، يعني، حينما اتخذتم قراراً بقتلي، هل كان صاحب القرار شخصاً واحداً؟ لو كان شخصاً واحداً، معيناً، لما خفت منه، فحين نصطدم أنا وهو ببعضنا البعض قد أغلبه وقد يغلبني.. ولكن قتلي كان قرارَ عائلة، تعدادُها أكثر من ثلث سكان القرية، وهو قرار يحتاج إلى تخطيط وتنفيذ، وبعد أن يتمكن الشخص المكلف بقتلي من ارتكاب جريمته، سيتضامن معه كل أفراد العائلة، ويوكلون له محامياً، ويرسلون له خرجية إلى السجن، وخرجية لأسرته، يعني، لا تؤاخذوني، أنتم عصابة قوية..
(حدث لغط، فتابع أبو سمير) وعائلة الترمزاوي، عائلتي أنا، أيضاً عصابة، لأنهم يتصرفون مثلكم، وإقدامُهم على قتل المرحوم علي أبو صدفة شغل عصابات أيضاً، وها هو ابن عمي عثمان الذي قتل ابن عمكم موجود في السجن، يأكل ويشرب ويصيح مواويل، لأنه مهما طال الزمن سيخرج، ويتابع حياته بأمان، وهو، بالمناسبة، ممتن لكم، يا عائلة أبو صدفة، كثيراً، لأنكم ستتصرفون بغباء شديد، وتقتلوني بدلاً عنه! ولماذا القتل أساساً؟ يوجد قانون، ويوجد سجن.. المهم. يا حاج عبدو. أرجو منك ومن أبناء هذه العائلة أن تسمعوا مني ما سأقوله لكم، وتحفظوه عن ظهر قلب. أنا سأغادر، خلال أيام، قرية الردادة، وأسكن في مدينة إدلب، ليس سراً، بل علناً. وقد فكرت بمائة ألف طريقة لحل القضية التي بيني وبينكم، حتى وصلت أخيراً إلى فكرة قوية جداً، وهي التالية: إذا كنتم مجانين، فلن ينفعني أن أكون أنا عاقلاً، ولذلك سأتَّبع نفس التفكير الغبي، الأعوج، التافه، الذي تتبعونه. أنتم قررتم قتلي، مع أنني لم أكن موجوداً في القرية يوم المشاجرة، والسبب هو أنكم تعتقدون أنني أحسن رجل في عائلة الترمزاوي. تمام؟ يا سيدي وأنا، بعدما أنتقل للعيش في إدلب، سيبقى ابني سمير وإخوته هنا في القرية، لكي يخدموا الأرض الزراعية الخاصة بنا، ويجنوا محصولها، ويرسلوا إلي خرجيتي، وقد أوصيت سمير وإخوته، وحملتهم أمانة، وهي أن يثأروا لي، إذا قُتلت، من أجحش رجل في عائلة "أبو صدفة"، وقد أعطيتُه اسم (الرجل/ الجحش) الذي في بالي، وطلبت منه ألا يبوح به لأحد. لن أعطيكم اسمه، فلا شك أن أجحش واحد فيكم يعرف نفسه بالتأكيد.
حينما انتهى أبو سمير من كلامه. خرج، وسط ذهول الموجودين.
قلت لأبو عناد: يا لروعة هذه الحكاية. ولكنني لاحظت أن أبو سمير ما يزال مضطرباً. يأتي كل يوم إلى هنا، إلى المقهى، بعد الإفطار، ومعدل تدخينه وشربه الشاي في ازدياد.
قال أبو عناد: مضى على قصته هذه أكثر من سنة. وصحيح أنهم لم يصلوا إليه، ولكن الخطر ما يزال محدقاً به. وياما قُتل ناس في بلادنا بسبب غباء الآخرين، وجهلهم.