حوار مع صديقة ألمانية: نرفض أن نكون أعداءً (2)
مقدمة المحرّر: يشكّل الموقف الألماني من الصراع العربي/ الفلسطيني الإسرائيلي مسألة غير مفهومة وإشكالية للكثيرين في العالم العربي، نظراً لخصوصية التاريخ الألماني في ما يتعلّق بما قام به الحكم النازي ضد اليهود من محارق بشعة، مضافة إليها الترتيبات والسياسات الألمانية اللاحقة بعد سقوط النازية، في محاولة للتكفير عن هذا الماضي. في هذا الحوار، الذي سيُنشر على شكل سلسلة بين الدكتور حسام الدين درويش والناشطة الألمانية كورنيليا زِنغ، يطرح كلاهما وجهةَ نظره، بحثاً عن نقاط التقاطع، وفي محاولة جازمة وحازمة لرفض الصور النمطية عن الآخر، وتقبّل الاختلاف، والأهم محاولة الفهم بشكل عميق وحقيقي. هنا الجزء الثاني من هذا الحوار (يمكنك الاطلاع على الجزء الأول عبر الضغط على هذا الرابط)
كورنيليا زِنغ: إنّ تفسيراتك الدقيقة يُشار إليها هنا بمصطلح "السياق" الذي يعني أنّ "أحداث 7 أكتوبر لم تحدث من فراغ". بالطبع لا! ماذا يحدث في "الفراغ"؟ لكن لا يمكن تجاوز قسوتها! وعلى هذا النحو، صدموني. ربّما هذا هو "الموقف الألماني" الذي تصفه. أنا (نحن) نشعر بهم كما لو أنّ أطفالنا وأحفادنا قد تعرّضوا للهجوم والقتل بقسوة. هل سيستمر العنف الآن في بلادنا؟ هل يجب أن أخاف من المتعاطفين مع حماس هنا في ألمانيا؟
أنا حقًا لا أفهم: لماذا يصعب عليك إدراك خصوصية جريمة 7 أكتوبر؟ وبالطبع أرى أيضًا المعاناة الطويلة للفلسطينيين. ولا يحتاج أيّ منا إلى الجدال حول حقيقة أنّ جميع الناس لديهم قيمة متساوية. لكن خزانات المياه التي يطلق المستوطنون النار عليها على السطح تختلف عن قطع رؤوس الأطفال الصغار. هل يمكن أن تتفوّق معاناة على أخرى؟ هل يجب أن يكون هناك حق للإنسان في الانتقام؟ الانتقام المفرط؟
ولولا الهجوم المروّع الذي وقع يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، لما قصف الإسرائيليون غزّة، ولكان الآلاف من الأبرياء في غزّة ما زالوا على قيد الحياة. فهل توقعت حماس حقًّا أنّ إسرائيل لن تدافع عن نفسها؟ يُقال إنّ إسرائيل تمتلك أحد أفضل الجيوش في العالم. كانوا يعلمون أنهم سيردون بإطلاق النار. إذن، ماذا كانت الخطة؟ إخضاع شعبك لهذه الحرب فوق كلّ المعاناة؟ وإذا لم يكن هناك المزيد من الوقود القادم لإطلاق القنابل، فمن المسؤول؟
كورنيليا زنغ: هل توقعت حماس حقًّا أنّ إسرائيل لن تدافع عن نفسها؟ يُقال إنّ إسرائيل تمتلك أحد أفضل الجيوش في العالم
أنا لا أدافع عن المستوطنين والتهجير غير القانوني للسكان الفلسطينيين. ولكن كما أظهرت المظاهرات الأخيرة في إسرائيل، هناك أيضاً معارضة قوية لسياسات نتنياهو اليمينية. ما الذي يبعث فيك الأمل بإمكانية حدوث مثل هذه المظاهرات القوية في ظلّ حكم حماس في فلسطين؟
حسام الدين درويش: إنّ تفسيراتك الدقيقة يشار إليها هنا بمصطلح "السياق" الذي يعني أنّ "ما قامت به إسرائيل بعد 7 أكتوبر لم يأتِ من فراغ". بالطبع لا! ماذا يحدث في "الفراغ"؟ لكن لا يمكن تجاوز قسوتها! وعلى هذا النحو، صدمتني. ولعل هذا هو "الموقف الفلسطيني" الذي تصفينه. أنا (نحن) نشعر بهم كما لو أنّ أطفالنا وأحفادنا قد تعرّضوا للهجوم والقتل بقسوة. هل سيستمر العنف الآن في بلادنا؟ هل يجب أن أخاف من المتعاطفين مع إسرائيل هنا في ألمانيا؟
أنا حقاً لا أفهم: لماذا يصعب عليكم إدراك خصوصية الجريمة الإسرائيلية بعد 7 أكتوبر (وقبلها)؟ ولا يحتاج أيّ منا إلى الجدال في حقيقة أنّ جميع الناس لديهم قيمة متساوية. لكن قيام دولةٍ استعماريةٍ استيطانيةٍ باحتلال أراضي دولةٍ أخرى وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء من شعبها يختلف عن قيام مقاومةٍ مسلحةٍ لهذا الاحتلال بقتل المئات من أفراد شعب هذا الاحتلال. هل يمكن أن تتفوّق معاناةٌ على أخرى؟ هل يجب أن يكون هناك حق للإنسان في الانتقام؟ الانتقام المفرط؟
لولا الاحتلال وجرائمه الكثيرة والكبيرة (القتل، التهجير، الاعتقال، رفض الحلول السياسية السلمية، إلخ) لما كان هناك مقاومة مسلحة ضد هذا الاحتلال، ولما حصل هجوم السابع من أكتوبر، ولما قُتل المئات من الإسرائيليين، سواء الأبرياء أو جنود الاحتلال. فهل توقعت إسرائيل، حقًّا، أنّ حماس أو الفلسطينيين لن يدافعوا عن أنفسهم؟ الفلسطينيون يناضلون، منذ أكثر من خمسين أو سبعين عامًا من أجل تحرير بلدهم من الاحتلال الاستعماري الاستيطاني، والتخلّص من جرائمه بحقهم. وإسرائيل تعلم أنّ الفلسطينيين سيقومون بعمليات مقاومة لهذا الاحتلال. إذن ماذا كانت الخطة؟ ومن المسؤول عن مقتل الإسرائيليين الأبرياء؟
أنا لا أدافع عن حماس وعن هجماتها الوحشية على الأبرياء. لكن سبعين عامًا من الاحتلال الرافض لكلّ مبادرات السلام أظهرت أنّ السلطات الإسرائيلية، سواء أكانت يمينيةً أم يساريةً، غير مستعدةٍ للاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة والعيش بحريةٍ وكرامةٍ. فما الذي يبعث فيك الأمل بإمكانية أن تقبل إسرائيل بتنفيذ القرارات الدولية، وأن تمتثل للقانون الدولي، فتنهي الاحتلال، وتزيل المستوطنات، وتقبل بعودة مئات الآلاف من المهجرين إلى منازلهم التي طُردوا منها؟ إسرائيل، بجيشها وبالدعم الذي تتلقاه من "الغرب"، أقوى من أن تقبل بحلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية. وقد جرّب الفلسطينيون معها كلّ الطرق السلمية والتفاوضية، ولم تُجدِ أيٌّ منها، ولا يبدو أنها يمكن أن تُجدِي في المستقبل المنظور.
حسام الدين درويش: قيام دولةٍ استعماريةٍ استيطانيةٍ باحتلال أراضي دولةٍ أخرى وقتل عشرات الآلاف من الأبرياء من شعبها يختلف عن قيام مقاومةٍ مسلحةٍ لهذا الاحتلال بقتل المئات من أفراد شعب هذا الاحتلال
كما تلاحظين، أستطيع أن أستخدم كلامك نفسه، للتعبير عن وجهة نظري، بعد أن أضع كلمة حماس أو الفلسطينيين مكان كلمة إسرائيل أو الإسرائيليين، وبالعكس. المشكلة أنّني مستعدٌ لإدانة حماس، والاعتراف بخصوصية هجماتها وقتلها للأبرياء الإسرائيليين، لكن متبني الموقف السياسي الألماني غير مستعدين للقيام بالإدانة ذاتها تجاه إسرائيل، والاعتراف بخصوصية هجماتها وقتلها للأبرياء الفلسطينيين. هناك الكثير من الدول العربية والسياسيين العرب الذين أدانوا هجمات حماس، وقاموا بحظرها، واعتبارها إرهابيةً، ومنعوا حضورها في بلادهم. هل هناك سياسيٌّ ألمانيٌّ قام بذلك؟ هل قمت أنت بذلك؟ هل أنت قادرةٌ على ذلك، أو مستعدةٌ للقيام به؟
سأعلق، سريعًا، على ثلاث مسائل وردت في كلامك: السياق، الخصوصية، الخوف.
بقبولك مصطلح السياق، يبدو، ظاهريًّا، أنّك تختلفين عن الموقف السياسي الألماني (والإسرائيلي) الذي يرفض الحديث عن أيّ سياق لفهم أو تحليل ما حدث في 7 أكتوبر. ولعلك تعلمين أنّ الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الذي أدان هجمات حماس، ورأى أنّها غير مبرّرةٍ مطلقًا، هو أحد القائلين: "من المهم أن ندرك أنّ هجمات حماس لم تحدث من فراغ، وأنّ هذه الهجمات لا تبرّر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة". وبسبب ذلك التصريح أو الموقف، تعرّض غوتيريش لانتقاداتٍ إسرائيليةٍ شديدةٍ، مع مطالبته بالاعتذار والاستقالة. والموقف السياسي الألماني عبّر عنه بوضوح عنوان أحد نصوص جريدة دي تسايت الألمانية "ليس لشر حماس سياقٌ Das Böse der Hamas hat keinen Kontext". رفض الحديث عن سياقٍ لهجمات حماس يهدف إلى منع أيّ فهم أو تحليل، ويمنع أيّ إمكانيةٍ للتفكير في حلٍّ عمليٍّ، ويجعل حماس شرًّا مطلقًا ناتجًا من طبيعةٍ شريرةٍ ينبغي استئصالها والقضاء عليها بأي ثمنٍ كان. في المقابل، الحديث عن السياق يظهر، بقوةٍ، عند تناول عمليات القصف والاجتياح الإسرائيلية. فهنا، السياق حاضرٌ في مقاربة الموقف السياسي الألماني (والإسرائيلي)، ليس لفهم أو تحليل ما حدث، والبحث عن حلولٍ له، بل لتبرير كلّ ما تقوم به إسرائيل، ورفض أيّة إدانةٍ لها. ومن هنا نفهم كيف تجرؤ وزيرة الخارجية الألمانية، الممثلة للموقف السياسي الألماني، على رفض أيّة مطالبةٍ بضرورة توقف إسرائيل عن قصف قطاع غزة، حتى بعد مقتل ثلاثة عشر ألف مدنيٍّ، منهم خمسة آلاف طفلٍ تقريبًا، أي أكثر من عشرة أضعاف عدد الضحايا الإسرائيليين في هجمات السابع من أكتوبر.
كورنيليا زنغ: أنا (نحن) نشعر بهم كما لو أنّ أطفالنا وأحفادنا قد تعرّضوا للهجوم والقتل بقسوة. هل سيستمر العنف الآن في بلادنا؟ هل يجب أن أخاف من المتعاطفين مع حماس هنا في ألمانيا؟
هل يختلف موقفك عن الموقف الألماني (والإسرائيلي) المذكور؟ لا أعتقد ذلك. فأنت تقرّين، شكلًا، بوجود سياقٍ، لكن ذلك الإقرار لا يغيّر من موقفك تجاه قصف إسرائيل واجتياحها لقطاع غزة. بل إنّك تبرّرين لها منع إدخال الوقود الضروري للمستشفيات، بحجّة إمكانية استخدامه لأغراضٍ عسكريةٍ. وربما أنت تبرّرين، للسبب ذاته، حرمان إسرائيل أكثر من مليوني شخص في القطاع إمدادات الغذاء والماء والكهرباء والدواء وكلّ المتطلبات الأساسية للحياة الإنسانية. في كلّ حال، هذا التبرير موجودٌ في الموقف السياسي الألماني (والإسرائيلي). ولتبرير هذا التبرير أو للقيام به، أنت تشدّدين على خصوصية هجمات حماس. وبالمناسبة، أنا أقر بخصوصية هجمات حماس، لكنني أرى خصوصيةً أخرى في هجمات إسرائيل. ولا أرى أنّ أيًّا من الخصوصيتين تبرر ما تفعله إسرائيل، وما فعلته حماس، حين قتلت واختطفت المدنيين. وبالمناسبة، حتى بعض حلفاء إسرائيل الغربيين بدأوا بمطالبة إسرائيل بالتوقف عن هذا الاستهداف العشوائي للمدنيين الفلسطينيين. فماكرون الفرنسي (الرئيس الفرنسي) طالب إسرائيل صراحةً بالتوقف عن قتل الأطفال، وكذلك فعل ترودو (رئيس الوزراء) الكندي. لكن ألمانيا ما زالت تتبنى الموقف الإسرائيلي بالكامل، وترفض توجيه أي نقدٍ له.
أنت تسألين: "هل يجب أن أخاف من المتعاطفين مع حماس هنا في ألمانيا؟". أعتقد أنّ أنصار حماس أضعف من أن يشكلوا تهديدًا فعليًّا لك أو لغيرك؟ وهم لا يستهدفونك أصلًا. أنا بالتأكيد ضد أي تهديدٍ أو اعتداءٍ، لفظيٍّ أو جسديٍّ، على أي شخصٍ آخر في ألمانيا، سواء أكان يهوديًّا/ إسرائيليًّا أم ألمانيًّا أم فلسطينيًّا. وأظنك تعلمين بوجود الكثير من الشائعات والمبالغات في هذا الخصوص. وقد نتحدث عن هذا الأمر لاحقًا. ما أودّ الإشارة إليه، أنّ الملايين من العرب والمسلمين المناصرين للقضية الفلسطينية، في ألمانيا ودولٍ أوروبيةٍ أخرى، يشعرون بالقمع والاضطهاد والتمييز ضدهم. وكثيرون منهم يخافون من التعبير عن آرائهم، في هذا الخصوص، خوفًا من التعرّض للاعتقال أو الطرد من الوظيفة أو الترحيل، إلخ. وأنا قابلت عشراتٍ منهم، وتلقيت النصيحة منهم، ومن آخرين، بضرورة التزام الحذر، وعدم التحدث في المجال العام، في هذا الخصوص. وهذا الأمر موجودٌ قبل هجمات السابع من أكتوبر، لكنه أصبح أقوى بعدها.
حسام الدين درويش: كثيرون، في العالم العربي الإسلاماتي، يرون أنّ الفضيحة تكمن، تحديدًا أو خصوصًا، في ما تقوم به إسرائيل، ليس منذ السابع من أكتوبر فحسب، بل منذ تأسيسها واحتلالها للأراضي الفلسطينية أيضًا
وصف الإعلام الألماني خطاب جيجيك في معرض فرانكفورت الأخير ﺑ "الفضيحة"، على الرغم من أنّه أدان، فيه، هجمات حماس إدانةً قاطعة وكاملة ولا لبس فيها. وقال جيجيك إنّ خطابه كان فضيحةً في نظر "الموقف السياسي الألماني": "ليس لأنّني كنت متطرفًا للغاية، بل على وجه التحديد لأنني كنت متوازنًا ومعتدلًا للغاية! وكان الخوف هو أنّ مثل هذا النهج قد يغري بعض الذين يتأرجحون في دعمهم الكامل لإسرائيل لرؤية معاناة الفلسطينيين أيضًا. من السهل إدانة شخص يهتف "الموت لإسرائيل" أسهل بكثير من إدانة شخصٍ يدين، دون قيدٍ أو شرطٍ، هجوم حماس، ويلفت الانتباه إلى خلفيته".
كثيرون، في العالم العربي الإسلاماتي، يرون أنّ الفضيحة تكمن، تحديدًا أو خصوصًا، في ما تقوم به إسرائيل، ليس منذ السابع من أكتوبر فحسب، بل منذ تأسيسها واحتلالها للأراضي الفلسطينية أيضًا. والفضيحة تكمن، أيضًا وخصوصًا، في الموقف الداعم لها ولاحتلالها وعدوانها وقتلها وقمعها للأبرياء. هذه هي الفضيحة التي تصدم الكثيرين ولا يستطيعون تصديقها. وللأسف، تظهر هذه الفضيحة في "الموقف السياسي الألماني"، ظهورًا قويًّا ونموذجيًّا.
قالت لي أستاذة علم اجتماع ألمانية بارزة: "من السذاجة أن يتوقع المرء موقفًا ألمانيًّا رسميًّا مغايرًا للموقف المتخذ". كثيرون، في العالم العربي الإسلاماتي، يرون أنه قد يكون من السذاجة، وبالتأكيد من سوء الأخلاق والسياسة، اتخاذ مثل هذا الموقف وتبنيه وتأييده. وفي كلّ الأحوال، كون هذا الموقف متوقعًا لا يجعله مسوَّغًا أو مقبولًا، في أيّ حالٍ من الأحوال.