خطاب استثنائي للعماد عون "الجديد": عهد "الإعمار" أم خيبة جديدة؟

10 يناير 2025
+ الخط -

بعد أكثر من سنتين من الفراغ الرئاسي، عمّت الاحتفالات لبنان، إثر انتخاب رئيس جديد للجمهورية، في أعقاب عهد رئاسي سابق وُصف بالكارثي على مختلف الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. 

هذا المقال ليس نصًّا في مديح الرئيس الجديد! فلم يكن يومًا الخيار المفضّل بالنسبة لي أن يتولى قائد عسكري السلطة السياسية، خصوصًا أنّ انتخاب قائد الجيش، وهو موظّف من الفئة الأولى، رئيسًا للجمهورية بينما لا يزال في منصبه يُعدّ خرقًا واضحًا للدستور وأتى بفعل تدخّل خارجيّ واضح وضوح الشمس. ومع ذلك، جاء خطاب الرئيس اللبناني الجديد استثنائيًّا بكلّ المقاييس. كما وصفه الباحث والناشط السياسي مصطفى فحص، فالخطاب "لا يتناسب مع أغلبية المنظومة الحاكمة ومشاريعها"، وقد بدا وكأنه حلم يصعب تصديقه، أو كما يُقال: too good to be true. انتقلنا من عهد العماد ميشال عون (الذي انتهى بفراغ رئاسي امتدّ لأكثر من عامين) إلى عهد العماد جوزاف عون، على أمل أن نقول شتّان بين العمادين.

منذ بضعة أسابيع، بدأت بكتابة مدوّنة يأس عن فقداني الأمل بشكل تام بالمنطقة وبلبنان، ولكنني لم أكملها. توقفت عن الكتابة بعد سقوط نظام الأسد الذي أعاد لنا جرعة من الأمل والثقة بأنّ العدالة لا بُدّ أن تأتي وأنّ القدر لا بُدّ أن يستجيب.

انتقلنا من عهد العماد ميشال عون إلى عهد العماد جوزاف عون، على أمل أن نقول شتّان بين العمادين

أمّا عن لبنان، فقد عاش اللبنانيون في السنوات الماضية كابوسًا لا ينتهي: أزمة مصرفية واقتصادية خانقة، بطالة، خسارة ودائع، انقطاع الكهرباء، جائحة كوفيد-19، انفجار مرفأ بيروت، وتعطيل أي تحقيقات جديّة في القضايا الكبرى وصولًا إلى الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان وغيرها من الأزمات. هذه الأزمات المُتراكمة قتلت روح الحياة لدى شعب لطالما عُرف بحبّه للحياة. مللنا مفردات مثل الصمود والتأقلم. أصبحت هذه المفردات نفسها عبئًا نفسيًا علينا، استهلكتنا واستنزفتنا حتى آخر نفس.
ولكن أتدرون ممّ مللنا أيضًا؟ مللنا من الخذلان، من الأمل المتزايد الذي دائمًا ما يتبعه خذلان. جيلنا نشأ على الخذلان حتى فقد الكثير منّا الأمل وقرّر المغادرة. أما كثير ممّن تشبّثوا وتمسّكوا بالبلد ففقدوا الأمل خلال الحرب الإسرائيلية الماضية على لبنان وكدنا نلحق بمن سبقونا ونغادر أيضًا. 

لكن اليوم، يبدو أنّ خطاب الرئيس الجديد قد منح بصيص أمل للبنانيين. هذا الأمل يحمل في طياته خطرًا كبيرًا. فعون أعطى اللبنانيين أملًا بعد عقودٍ من الخذلان! فإذا لم يتمكّن الرئيس من الوفاء بوعوده، فقد يكون ذلك المسمار الأخير في نعش الأمل بوطن أصبح في السنوات الأخيرة طاردًا لأبنائه.

مللنا من الخذلان، من الأمل المتزايد الذي دائمًا ما يتبعه خذلان

أهم ما ورد في خطابه هو "تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح" في رسالة واضحة لحزب الله بأنّ الدولة ثم الدولة هي الجهة الوحيدة التي يجب أن تحمل السلاح. وأضاف: "عهدي أن أدعو إلى مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكّن الدولة اللبنانية (أكرّر الدولة اللبنانية) من إزالة الاحتلال الإسرائيلي ورد عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية". كما شدّد على أهمية الاستثمار بالجيش "ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوبًا وترسيمها شرقًا وشمالًا وبحرًا ويمنع التهريب ويحارب الإرهاب ويحفظ وحدة الأراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية"، واعدًا بإعادة إعمار "ما هدمه العدوان الإسرائيلي في الجنوب والبقاع والضاحية وجميع أنحاء لبنان بشفافية".

كما أكّد عون أنّه "إذا أردنا أن نبني وطنًا علينا أن نكون جميعًا تحت سقف القانون وتحت سقف القضاء... ولا مافيات أو بؤر أمنية ولا تهريب أو تبييض أموال أو تجارة مخدرات ولا تدخل في القضاء ولا تدخل في المخافر ولا حمايات أو محسوبيات ولا حصانات لمجرم أو فاسد أو مرتكب". وأضاف: "آن الأوان لنراهن على لبنان باستثمارنا لعلاقاتنا الخارجية، لا أن نراهن على الخارج للاستقواء على بعضنا البعض".

إذا لم يتمكّن الرئيس من الوفاء بوعوده، فقد يكون ذلك المسمار الأخير في نعش الأمل بوطن أصبح في السنوات الأخيرة طاردًا لأبنائه

وعد عون أيضًا بإقرار مشروع قانون جديد لاستقلالية القضاء وإصلاح السجون ومكافحة الفساد وضمان الحريات والحقوق. كما وعد باحترام حرية الإعلام وحرية التعبير ضمن الأطر الدستورية والقانونية، والاستثمار بالعلم الذي كان أحد أكبر الخاسرين خلال السنوات الماضية، لا سيما خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان. فهل سيلتزم عون بوعوده؟ 

على الصعيد الاقتصادي والمالي، شدّد عون على ضرورة تنظيم "المصارف تحت سقف الحوكمة والشفافية، مصارف لا حاكم عليها سوى القانون ولا أسرار فيها غير السر المهني"، متعهدًا بعدم التهاون في حماية أموال المودعين.

خطاب الرئيس الجديد يعكس تطلعات وآمال اللبنانيين التي لطالما حلموا بها لعقود. لكنه في الوقت نفسه يضع على عاتقه مسؤولية كبيرة لتحقيق هذه الوعود. فالشعب اللبناني الذي ملّ الخذلان لا يحتمل خيبة جديدة.

هلا نهاد نصر الدين
هلا نهاد نصر الدين
هلا نهاد نصرالدين
صحافية لبنانية ومسؤولة وحدة التحقيقات الاستقصائية في موقع "درج"، منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2020. تعمل على تحقيقات حول الجرائم المالية والفساد. شاركت نصرالدين في عدّة مشاريع استقصائية عابرة للحدود، من بينها "باسبورات الكاريبي"، "وثائق إريكسون"، و"وثائق باندورا"، ومشروع "بيغاسوس"، وغيرها.
هلا نهاد نصرالدين