خطوة إلى الوراء خطوتان إلى الأمام
تقلب النساء المعادلة، كل الطرق تشد خطاهن نحو الوراء، يتعبن، يراوغن القيود والممنوعات، يعدن خطوة واحدة إلى الوراء، يكثفن العزم، يختزنّ القوة، ويمضين نحو الأمام، خطوتان حازمتان وهادرتان، واحدة تعويضا عن تلك التي ركنت إلى الوراء مضطرة لبعض من الوقت والثانية لمواصلة التقدم وتثبيته.
تحولت النساء إلى معيلات! وكأنهن لم يكنّ كذلك يوما؟ الفرق هنا، أن الواقع بات معلنا ومعترفا به، كانت جدتي تتولى إدارة الأرض الواسعة وبيع المواسم وتضمين بعض حقول التفاح للضمانة، وما زالت نساء القرى يقطفن ورق العنب ويبعنه، ما زلن يقطفن الفاصولياء ويزرعنها ويطهين ويغسلن وبعضهن يبعن المحاصيل في بيوتهن أو يذهبن إلى البيوت لبيع منتجات الأرض وما صنعته أياديهن من مؤن، ولا تكتفي أخريات بحلب الأبقار، بل تصل قبل الشمس إلى قرى أخرى لبيع الحليب والقريش والجبن.
تدرب سهام ابنتها على كيفية تنظيف بيت سيدة ستأخذها إليها، مريم طفلة في الثالثة عشرة من عمرها، متفوقة في المدرسة، أصرت على العمل في البيوت برفقة أمها لتأمين مصروف دراستها، وافقت الأم مرغمة، لكنها اشترطت أن تعمل مريم ثلاث مرات أسبوعيا فقط، كما وعدتها بأنها لن تقتطع قرشا واحدا من أجرها وستدخره لها لشراء الزي المدرسي والكتب والدفاتر، تقول مريم: أعمل يوما وأرتاح في اليوم الذي يليه، أحب الدراسة، سأشتري دفاتر ملونة من السلك الأنيق والمريح، وسأشتري حذاء دافئا وملابس رياضة جديدة ومريحة! تعرف مريم ما تريده تماما، عقدت صفقة مع والدها المقعد، ستكمل دراستها مقابل أن تتكفل بنفقاتها، قالت لأمها: (كل سندويشات أخوتي ع المدرسة أنا سأسدد ثمنها)، خلخلت مريم القاعدة الراسخة والمعيقة لتعليم البنات، كسرت تقبل أو تذرع الأهل بفرض تزويج الطفلات لعجزهم عن إطعامهن، تكذب سهام بشدة كل الوعود المخملية بأن الأزواج سيسمحن بإكمال زوجاتهن أو ببناتهن للتعلم بعد الزواج، كانت ضحية وعد كاذب تكرر كثيرا وأوصلها إلى الحرمان من التعلم ومن الأمان النفسي والجسدي والغذائي أيضا، سهام لا تصدق وعدا يبنى على الرمال.
خطوة إلى الوراء، قاعدة تفرضها الهزيمة حين يحتاج البشر للنجاة، خطوتان إلى الأمام، تكتيك أو تقنية فرضتها الحرب على النساء فاغتنمنها، وانطلقن
تجمع سهام الدفاتر وما تبقى من أوراق بيضاء من أصحاب البيوت التي تعمل بها، لا تطلب ملابس ولا أموالا إضافية، بل أقلاما ومسودات وحقائب مدرسية ودفاتر، قبلت العمل في بيت إضافي جديد، لأن صاحبته قادرة على تأمين مقاعد دراسية لأولادها في مدرسة مستوى التعليم فيها جيد، زرعت سهام في رؤوس أبنائها فكرة أن التعليم هو البديل الوحيد للشقاء، ونجحت، ونجا الأبناء وتفوقت البنات.
بعد الاعتراف بأنهن معيلات مقابل أجر نقدي يدررن دخلا مركزيا في البيوت، تبحث السوريات بعد الحرب عن معنى جديد للإعالة، معنى مرتبط بالنوع لا بالكمية فقط، كثيرات يرغبن في إنجاز مشاريع خاصة بهن، وكثيرات غيرن أعمالهن، طالما تمسكت المرأة بعملها الوظيفي استسلاما لأمان اكتشفن أنه مخادع، العمل الوظيفي يحقق دخلا ثابتا، لكنه قليل، إجازات لكنها كيفية، طبابة وتأمين صحي تراجعت مكاسبه، ومحصلته دوامة من المرض والتعب والعجز، تحلم غالبية الشابات السوريات بالعمل المدني، والأصح بالعمل في منظمات أو جمعيات رواتبها الشهرية عالية وفرص التطور والترفع ممكنة، حتى الأهل باتوا ينصحون بناتهم بجدوى العمل في المنظمات ولا يمانعون بفكرة السفر إلى المحافظات أو القرى ولا في ساعات العمل الطويلة.
أعلنت إحدى مكاتب المنظمات عن حاجتها لمتطوعات من الأرياف لتشكيل فريق يمثل كافة القرى عبر سيدة واحدة، قرأت سلافة الإعلان، دخلت إلى الصفحة، دونت اسم أمها والمعلومات المطلوبة، تم تحديد موعد للمقابلة، حينها فقط أعلمت سلافة أمها وشجعتها بحسم، كانت مصرة أن أمها تستحق هذه الفرصة وتحتاجها، رافقت أمها إلى المقابلة في مركز المدينة، قُبلت الأم ممثلة عن قريتها، وهي الآن عضو في مجلس الإدارة المركزي، تبدو القصص فردية وغير كافية للتعميم! نعم يبدو هذا صحيحا أيضا، لكنه غير محبط، هو نافذة جديدة على العالم، هو قدوة لطالما كان من الضروري وصولها وتعميم نجاحها، الحروب فرصة تاريخية للتغيير رغم فظاعاتها وما تخلفه من بؤس، المهم فتح النافذة فالشمس لا أيادي لها لفتح المغاليق.
قد يقول بعضهم إن النساء لو خيرن ما بين ولوجهن سوق العمل النقدي وبيوتهن لاخترن العودة إلى البيوت، تجيب بعض النساء بالموافقة على هذا، كثيرات منهن يرغبن بالعودة إلى بيوتهن لممارسة أعملهن المنزلية وأدوارهن الرعائية، لكن الفرق هنا واضح، العودة ليست مرغوبة لأن البيت هو مملكة النساء الوردية أبدا، العودة هنا لأن النساء ورغم إدرارهن للدخل الرئيسي في العائلة كن مرغمات في الغالب على ممارسة الدور الرعائي من خدمة منزلية ورعاية الأطفال والأزواج وكبار السن، إذن لقد تضاعفت الأعباء وثقلت الأحمال، لكن العودة وإن بدت ممكنة للبعض لكنها ستكون مختلفة حكما، ستدير البعض من النساء مشاريعها الصغيرة الخاصة من بيوتهن، بتنظيم أكبر للوقت وبتوزيع للمهام داخل الأسرة، حتى أن وداد والتي كانت تعمل ممرضة في مشفيين قبل الحرب وبسبب تعذر وصولها إلى مركز عملها بسبب إغلاق الطرق فقد اضطرت لترك العمل ولجأت إلى عمل جديد، تحولت إلى سائقة على سيارتها الخاصة تنقل الطالبات إلى المدارس والنساء إلى بيوت الأهل ومراجعة الأطباء أو للمشاركة في المناسبات العائلية في بيئة محافظة جدا، ويخاف رجالها من مغادرتها أو التجول بين أحيائها.
خطوة إلى الوراء، قاعدة تفرضها الهزيمة حين يحتاج البشر للنجاة، خطوتان إلى الأمام، تكتيك أو تقنية فرضتها الحرب على النساء فاغتنمنها، وانطلقن.
أصدق النساء، أصدق الناجيات من كل هذا الخراب المقيم والممتد، أصدق الخطوات تخطو بقلق ولكن بحزم، تخادع الخوف والظلم العتيق والمستجد وتمضي، هل نسخر من أقدامنا المذعورة ترتد إلى الخلف لتنجو أو لتراجع الأداء والعزيمة؟ الخطوتان القادمتان نحو الأمام هما الطريق وهما الوعد المنحوت على الصخر.