خيارات الفلسطينيين الصعبة في غزّة
أحمد الصباهي
"بدأت العسكرة السياسية الإسرائيلية تجاه قطاع غزّة في سنة 2005، ففي تلك السنة أصبحت غزّة هدفاً عسكرياً رسمياً من وجهة النظر الإسرائيلية، وعُوملت كأنّها قاعدة معادية ضخمة، وليست مكاناً للسكان المدنيين، والواقع أنّ غزّة مدينة ككلّ مدن العالم، لكنها أصبحت بالنسبة إلى الإسرائيليين حقل تجارب يختبر فيه الجنود أحدث الأسلحة وأكثرها فتكاً".
بهذه الكلمات اختصر الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي، إيلان بابيه، في كتابه "أكبر سجن على الأرض، سردية جديدة لتاريخ الأراضي المحتلة"، الوضع في قطاع غزّة بعد التحرير، وهو واقع لا يختلف كثيراً عمّا نعايشه الآن من حرب مدمّرة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي بدعم عسكري وغربي مفتوح، حرب تصيب البشر والحجر، منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى. فحتى كتابة هذه السطور، وقد بلغنا اليوم الـ69 من العدوان على غزّة، تجاوز عدد الشهداء من المدنيين حسب إحصاءات وزارة الصحة الفلسطيني أكثر من 18 ألف شهيد وأزيد من 50 ألف إصابة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأوّل الماضي.
ولا يتوقف خطر العدوان المستمر على القطاع من خلال استهداف المدنيين، وارتكاب المجازر بحق العائلات، بل يتعداه إلى ترتيبات ما بعد "حماس" في القطاع، والنظام الجديد الذي من المفترض أن يحكم غزّة، في ظلّ عودة المخاوف من عمليات تهجير يقوم بها الاحتلال، مستغلاً فرصة العدوان لدفع الناس بالقوة تحت تهديد القتل والاعتقال من شمال القطاع إلى جنوبه، وصولاً لدفع الناس إلى منطقة رفح استعداداً لإرغام الغزيين على التهجير إلى سيناء.
ولدى استعراض ما تداولته مراكز التفكير الإسرائيلية والأميركية، تظهر بشكل جلي، الاقتراحات لترحيل السكان المدنيين في غزّة، وكأنّهم يشكلون "عقبة كأداء" أمام نجاح العدوان الإسرائيلي في القطاع، وكأنّ المقاومة لم يكن لها أي دور في تعثّر الاحتلال في نجاح مسار عدوانه على القطاع .
ماذا يُحضّر لقطاع غزّة؟
يرى الكاتب نور الدين مصالحة في كتابه: "طرد الفلسطينيين، مفهوم الترانسفير في الفكر والتخطيط الصهيونيين (1882- 1948)"، أنّ اللغة الصهيونية أفرزت ثلاثة ألفاظ رئيسية، هي "المسألة العربية"، و"المشكلة العربية"، وفكرة "الترحيل". هذه الألفاظ نتاج وحصيلة سياسية لأهداف الصهيونية السياسية وأيديولوجيتها منذ تأسيسها في أواخر القرن التاسع عشر.
وكان من اللافت أنّ هذا التفكير كان مبكّراً لدى مؤسّس الصهيوينة ثيودور هرتزل، الذي كتب في يومياته بتاريخ 12 حزيران/ يونيو 1895: "سنسعى لتهجير السكان المعدمين عبر الحدود من خلال تدبير الوظائف لهم في بلاد الانتقال، لكنّنا سنمنعهم من القيام بأي عمل في بلدنا".
أمّا في ما يخصّ تهجير المدنيين في القطاع، فقد كشف موقع بي بي سي، في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنّ "إسرائيل وضعت خطة سرّية لترحيل آلاف الفلسطينيين من غزة إلى العريش في سيناء عام 1971". وبحسب تقارير السفارة البريطانية آنذاك، فقد شملت الخطة "النقل القسري" للفلسطينيين إلى مصر، وأراضٍ "إسرائيلية" أخرى، في محاولة لتخفيف حدّة العمليات الفدائية ضد الاحتلال، وما اعتبرته مشكلات أمنية تواجه سلطة الاحتلال في القطاع.
عندما تنقطع بالناس السبل، وتفقد أبسط مقومات الحياة من مأكل ومشرب ودواء، مع دخول فصل الشتاء، تصبح الخيارات ضيقة
هذا التقرير لم يأتِ من فراغ، بل نُشر بسبب ضجيج الحديث عن ترتيبات أمنية يبتغيها الاحتلال الإسرائيلي في غزّة، مع وجود جهود أميركية بريطانية لإعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، لكونها الجهة "الصالحة" لاستلام القطاع، مع معارضة إسرائيلية واضحة، وتحديداً من نتنياهو. وبالرغم من أنّ الاحتلال يمارس التهجير بشكل غير مباشر، بالقوة عبر القتل، واستهداف البنية التحتية من المرافق كافة، وصولاً إلى اعتقال الناس في شمال القطاع وإرغامهم على المسير إلى الجنوب، في مخطّط واضح للتهجير، لم تجد مراكز الأبحاث الإسرائيلية والأميركية لهذا النوع من الممارسات الإسرائيلية إلا أن تحمّل "حماس" المسؤولية، عبر مقولة "اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية"، فبدأت تبحث عن "مشكلة المدنيين" التي تمثل العائق أمام سرعة ونجاح العملية العسكرية الإسرائيلية، مستخدمة مصطلح "الترحيل" و"الإجلاء" و"المنفى" وليس "التهجير"، ومفترضة أنّ الاحتلال سيحقق النجاح سريعاً لولا هذا العائق، وبدأت باجتراح الحلول لهذا النوع من الترتيبات، وكان من اللافت جداً كثرة الحديث عن سيناء كافتراض أوّل.
سيناريوهات وخطط لتهجير أهل غزّة
نشر مركز بيغن السادات الإسرائيلي سيناريوهات الخطط للمدنيين الفلسطينيين، عبر مقال لشاي شبتاي، تحت عنوان "سيوف حديدية: كيف يتم إجلاء السكان من جنوب غزة"، مقترحاً معسكرات تديرها الولايات المتحدة في النقب، ذلك أنّه بعد استبعاده التهجير إلى سيناء، بسبب الرفض المصري، يقترح شبتاي إقامة مخيمات إيواء مؤقتة لسكان غزّة في النقب، عبر خطة دولية إقليمية يقودها الأميركيون. ولا يشرح لنا كيف سيحصل ذلك، مقترحاً تقديم حوافز اقتصادية لسكان غزّة لمغادرة القطاع. ويدّعي شبتاي أنّ هذه العملية محدودة زمنياً، وسيعود السكان إلى أماكن إقامتهم العادية.
أما معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، فقد تناول بعدّة مقالات سيناريوهات ما بعد حماس، محمّلاً إياها مسؤولية الضحايا المدنيين، ومتغاضياً عن جرائم الاحتلال واستهدافه الممنهج للبشر والمرافق الحيوية في القطاع، فنشر في موقعه مقالاً تحت عنوان: "إنهاء الحرب" لكلّ من روبرت ساتلوف، ودينيس روس. وبعد عرض لمجريات الحرب، يفترض هذا المقال إمكانية هزيمة حماس، بعد أن يبدأ الجيش الإسرائيلي عمليته في خانيونس، باعتباره سيغيّر مسار الحرب. وهذه الهزيمة المفترضة، إمّا أن تكون عبر استسلام قادتها، وإما بتدمير بنيتها العسكرية، أو خروج الناس عليها. لكن اللافت في الأمر هو الحديث عن المنفى لأفراد حماس، وعائلاتهم (ولم يحدّد هذا المنفى)، ومن يبقَ في القطاع فعليه نبذ ما أسموه العنف، بل يُفرض عليه إعادة التأهيل، وبقي تساؤل مفتوح، عن القيادات في الخارج، وكيف ستتعامل إسرائيل معهم ومع الدول الحاضنة؟
نحن بحاجة بالإضافة إلى، صمود الغزيين، والتصدي البطولي للمقاومة، إلى تحرك شعبي وغربي ضاغط على الأنظمة، لإيقاف الحرب، ومنع مخطط التهجير
أما صاحب مقال "نهاية ذات مغزى في غزّة، تفصل بين التحوّل والانتقام"، فقد اقترح نشر قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة على حدود المستوطنات في غلاف غزّة، ولزيادة الاطمئنان، يُفضّل أن تكون من دول عربية وإسلامية، مقترحاً الأردن، المغرب، بنغلاديش، ماليزيا، تركيا، وإندونيسيا، لمراقبة الحدود مع "إسرائيل" وتأمينها من المتسلّلين، داعياً السلطة الفلسطينية إلى الانخراط في "ما بعد حماس" في الوصاية الدولية على القطاع.
أما مركز راند الأميركي، فتحت عنوان "النازحون في غزّة الخيار الأقل سوءاً"، اقترح ترحيل المدنيين، بعد صعوبة نقلهم إلى سيناء، إلى مواقع لجوء في إسرائيل أو الضفة الغربية، مع الأخذ بالاعتبار التخوّف من ألّا يعودوا مرّة أخرى إلى غزّة.
كل هذه المقترحات لا تقف على أرضية صلبة حتى الآن، باعتبار أنّ الشعب الفلسطيني في القطاع ما زال متمسّكاً بأرضه، بالرغم من نزوح مئات الآلاف إلى جنوبه، فقد بقيت أعداد ليست بالقليلة، والتي رفضت الهجرة من الشمال إلى الجنوب، واختارت أن تعرّض نفسها لخطر التصفية والاعتقال، كذلك ما زالت المقاومة الباسلة توقع في صفوف جنود العدو ودباباته الخسائر، وتطلق الصواريخ من الشمال تحديداً.
وفي ظلّ صمت عربي مريب، وغربي غير ضاغط بما يكفي، وإن صوّتت الأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة لوقف إطلاق النار، وبدأت لغة التصريحات الأميركية تتغيّر، فمسار الضغط ودفع الناس إلى جنوب القطاع ومنها إلى رفح، ما زالت مستمرة ولم تتوقف، وعندما تنقطع بالناس السبل، وتفقد أبسط مقومات الحياة من مأكل ومشرب ودواء، ومع دخول فصل الشتاء تصبح الخيارات ضيقة، وبالتالي نحن بحاجة بالإضافة إلى صمود الغزيين، والتصدّي البطولي للمقاومة، إلى تحرّك شعبي وغربي ضاغط على الأنظمة، لإيقاف الحرب، ومنع مخطط التهجير، وإلا فسيكون الخيار الصعب، والأوحد هو الاعتماد على إيمان الغزيين كما هو من بداية الحرب، والصمود ثمّ الصمود، لإسقاط هذه المؤامرة.