زفّة كذّابة.. وعالم موازٍ
في قريتيَ البعيدة (سلوكاً لا مكاناً)، تُلغى الأفراح ويُغلق التلفاز والراديو حال وفاةِ أيٍّ من الأهل أو الجيران، وتُحمل "الصواني" من كلّ بيت إلى أهل الميّت، إذ لا وقت لديهم، ولا طاقة للطهو أو الإطعام. تُشاركهم الحزن كما تُشاركهم المسؤوليّة وتُعينهم على ابتلائهم، وأنت تعرف أنّهم قادرون لولا حزنهم، وربما أغنى.
وفي عالم موازٍ متقزّم، تملأ اللافتات الانتخابيّة أعمدة الإنارة، ويُجبر الناس على تعليق الدعاية (الأحاديّة) أمام محالّهم وتشتغل الأغنيات في مكبّرات الأصوات وتجول السيارات بها، لكن يُحظر رفع العلم الفلسطيني في قلب القاهرة. وبدلاً من الحشد الإنساني والدبلوماسي الدولي لوقف المقتلة والتهجير، يُساقُ المواطنون من أشغالهم وجامعاتهم ليحتفلوا بالعرس الانتخابي.
…
انفضّت الزفة الكذّابة، وعاد الجميع من المولد بلا حمّص، لكن ببعض بونات بقيمة مائتي جنيه، وكراتين غذائيّة أو أكياس السكّر الذي كان مدّخراً للمصوّتين والراقصين على أعتاب اللجان. لكنّ المولد هذه المرّة غير كلّ مرّة، ووقاحة الزفّة تتجاوز كلّ وقاحة سابقة، ليس لأنّ الحال كما نعيشه جميعاً ولا يخفى على أحد، ولا لأنّ المهزلة تتجاوز حتى إمكانيّة قبولها في سياق "المهزلة"، إذ لم تتوقّف المقتلة بعد في غزة أو تخفت حدّتها، ولو قليلاً، بل تسارعت وتيرة المجازر اليوميّة بحقّ أهلنا، كما اقترب عدّاد الضحايا من نحو 20 ألف شهيد وخمسين ألف مصاب، وخرجت تقارير تتحدّث بوضوح عن حالات موت من الجوع والعطش، وقبلها حالات كثيرة عن استشهاد مرضى، بينهم أطفال لغياب الرعاية أو انقطاع المولّدات.
تزامناً، تتكدّس مئات الشاحنات المعبّأة بالمساعدات على جانبَي الطريق والمخازن من رفح حتى الإسماعيليّة دون السماح لها بالدخول من المعبر، وتَجدّد اعتقال العشرات من المتضامنين مع غزة، ممن ظهروا أمام النيابة، وسبق اعتقالهم على تخوم ميدان التحرير أو بيوتهم ولم يستمرّ اختفاؤهم القسريّ، كما أُلقي القبض واحتجز ثمّ أجبر على السفر نشطاء دوليون، سبق وأتوا للانضمام إلى قافلة ضمير العالم "الممنوعة من الخروج من القاهرة حتى الآن". فوجئوا بالتعطيل والمنع، فحاولوا التقدّم بطلبات للخارجيّة المصريّة للتصريح بتحرّك القافلة... فاحتُجزوا ورُحّلوا بعد إخفائهم لنحو يومٍ كامل.
بدلاً من الحشد الإنساني والدبلوماسي الدولي لوقف المقتلة في قطاع غزّة، يُساقُ المواطنون من أشغالهم وجامعاتهم ليحتفلوا بالعرس الانتخابي
في عالم موازٍ: كان لمصر التي نريد، أن تفتح المعبر بالكليّة كما سبق وحدث، بعيداً عن تهديدات العدو بقصف أيّ شيء أو شخص يدخل، ودون اعتبار لمحاولات الردع العلني الذي تحمله خطابات قادة الحرب، والتي نعلم أنّ جلّها (بما في ذلك استمرار الإبادة) جزء من محاولات التشبّث بأيّ شيء قبل السقوط داخليّاً، والحساب على فاتورة الهزيمة التي تكبّدتها الحكومة وأجهزتها الأمنية والاستخباراتيّة، والتي أصبحت محوراً للنقاش داخل مجتمع العدو ذاته، بل وصلت إلى حدّ انتقاد جو بايدن علناً لصديقه بنيامين نتنياهو وحكومته، ليقول إنّها لن تتحرّك إلى الأمام وتكرّر الخطأ الأميركي باحتلال أفغانستان، بل كاد يدعو مجتمع العدو لتغيير حكومته.
كان لمصر التي نريد أن تسمح للآلاف من المتضامنين مع أهل غزّة، الرافضين للإبادة والتهجير، بدخول القطاع عبر معبر رفح من حول العالم، وفي مقدّمتهم شخصّيات وازنة دوليّاً، وهو ما لن يُدخل المساعدات والوقود فحسب، بل قد يوقف الحرب بقوّة الناس، الذين أثبتوا بالتجربة إمكانيّة تحقيق مكاسب ملحوظة على الأرض بمنع شحن ذخائر أو أسلحة للعدو كما حدث باعتصامات لعمّال الشحن في بلدات عدّة حول العالم، بينها أميركا.
أمّا الحشد الرسمي من الأجهزة والإعلام للنزول الاحتفالي والطوابير القادمة من كلّ حدب وصوب، بكشوفات الحضور مع وجباتهم وفنّانيهم وصور مرشّحهم الرئيس، فمشهد مبتذل وفاقد للأثر، في الداخل الخارج، إذ يعرف بحقيقة تخليقه القسريّ كلّ من يشاهده، ويكتب عنه ساخراً في كلّ تقرير (صحافي أو دبلوماسي).
قمع كلّ صوت مع فلسطين، لن يُخرس هذه الأصوات أو يغيّر هتافاتها، هو فقط سيشحنها بالحقد أكثر ليعيد توجيهها بانتظار اللحظة المناسبة، التي لن تكون ساعتها "تحت السيطرة"
أن تدفع السلطة ربع ما دفعته لشركات العلاقات العامّة الأميركيّة والأوروبيّة (أو الرشى لبرلمانيين وتنفيذيّين) لتحسين صورتها وتخفيف الضغط عليها بسبب سجلّها الأسود في حقوق الإنسان والجرائم بحق مواطنيها، أن تدفعه إلى كشف المذابح الصهيونيّة بحق فلسطين (القضيّة والشعب)، ومخططاتها بحق مصر وأمنها القومي، واعتداءاتها المتكرّرة على الحدود المصريّة، ما أسقط شهداء ومصابين دون أيّ صدى، وخلق مجموعات ضغط على الإدارة الأميركيّة والأوروبيّة لتحقيق طفرة في ملف المساعدات ووقف الحرب واستهداف المنشآت الطبيّة والأمميّة.
أن تلغي اتفاقيّة كامب ديفيد التي ما أورثت مصر (الشعب والدولة والسلطة الحاكمة) إلا الانبطاحات المتتالية والعارات بلا نهاية، أو تطرحها للاستفتاء كورقة ضغط على العدو للتراجع عن جرائمه ووقف انتهاكاته، وأن تطرد السفير الصهيوني وتسحب السفير المصري من هناك.
أن توقف فوراً اتفاق الغاز الفلسطيني الذي تشتريه مسروقاً وتدفع ثمنه للسارق، وكلّ شراكة اقتصاديّة، أمنيّة، معلوماتيّة مع دولة العدو وتقطع علاقاتها به، كما سبق وفعلت مع تركيا وقطر عقاباً لهم على موقفهم من كرسي الحكم.
أن تهدّد بغلق قناة السويس أمام سفن الوقود والأسلحة والذخائر المتّجهة لجيش الاحتلال (أو تغلقها بالفعل أمام الشحنات المحرّمة دوليّاً على سبيل المثال) مع خلق اصطفاف دولي يدعم موقفها.
كان لمصر التي نريد أن تفعل ما لا حصر له لتنحاز لفلسطين وأهلها، أمّا إصرارها على الأداء المخزي المصطفّ مع العدو، ليس مستنكرًا فحسب، إنّما هو من قبيل الغباء
أن توقف المتاجرة المعتادة بآلام الناس وعذاباتهم، وتوقف فوراً تسعيرة التنسيق القسري على المعبر، والتي وصلت بحسب شهادات وتقارير إلى عشرة آلاف دولار (كانت أربعة ثم سبعة..)، لوضع الاسم ضمن قوائم الإجلاء بغضّ النظر عن مدى الإصابة أو المرض.
كان لمصر التي نريد أن تفعل ما لا حصر له، لتنحاز صراحة إلى فلسطين وأهلها (أي لذاتها). أمّا إصرارها على الأداء المخزي المصطفّ مع العدو صراحةً أو ضمناً (كأنّما تصدّق كلام نتنياهو بأنّه يخوض حربه نيابة عن الأنظمة العربيّة)، ليس مستنكراً فحسب، بل هو من قبيل الغباء، لا في الدفاع عن الوطن وحده، بل في الدفاع عن السلطة كذلك.
انحيازات الآن تحدّد مسارات القادم، ومصائره، وفي النموذج الأضيق ممّا سبق، ألفت الانتباه إلى أنّ قمع كلّ صوت مع فلسطين، لن يُخرس هذه الأصوات أو يغيّر هتافاتها، هو فقط سيشحنها بالحقد أكثر (لا على العدوّ وحده) ليعيد توجيهها بانتظار اللحظة المناسبة، التي لن تكون ساعتها "تحت السيطرة".