سريالية الحضور السوري عبر الصورة
يلف الغياب حياة السوريين والسوريات في الداخل وفي بلدان الشتات، تبدو هذه العبارات شرا، لكن لا بد منه، فلم يعد ممكنا تغطية الشمس بغربال، الغياب بات جزءا أصيلا من حياة السوريين، بات سمة عامة وطبيعية.
يصر السوريون على إحضار الغياب، كلاعب خفة يتلاعب بالحضور، يحضر الغائب من مسافات بعيدة ويبتعد الحاضرون بعيدا نحو بلاد لم يزوروها أبدا.
إبراز صور الغائبين عادة قديمة وأصيلة في حياة السوريين، فقد اعتاد السوريون في أحزانهم تكبير صور الموتى الراحلين، يختارون الصور الأجمل لتكثيف الخسارة، يتماهى السوريون في حزنهم مع الصور بطريقة أكثر درامية، يعلقونها على الجدران، يزينونها بالورود، يرفعونها عاليا ويرقصون بها، يقولون للحضور عبر الصورة إن الراحلين ما زالوا معنا وبيننا، يعلن الجميع حضورا ساطعا للغياب حتى حين يعتادون عليه ويألفون تبدل لون الصورة واصفرارها أو تهالك إطارها.
نحن الحاضرون رغم الغياب، والغائبون رغم كل سطوة الحضور، نلجأ إلى أبعد المسافات لنعلن التمام شمل العائلات عبر الصور
والزمن القديم متصل بالجديد، والجديد هنا رحيل مكثف ولكن دونما موت، هجرة وغياب طويل يتعثر فيه اللقاء. لذلك يلجأ السوريون إلى ذات الحيلة القديمة، يحضر الغائبون فيها عبر الصور، أعراس بلا عريس وإن كان يتابع عرسه عبر شاشات الجوالات، لكن صورته موجودة هنا رغم المسافات البعيدة جدا ومستقرة على الكرسي الملاصق لكرسي العروس في صالة الأفراح، حفلات خطوبة بلا عرسان أيضاً، وحين يتم التقاط الصور التذكارية تمسك الخطيبة بصورة خطيبها الغائب وكأنها تستحضره ملاصقاً لها وحاضراً معها في حفل خطوبتهما، والأم تمسك بصورة ابنها الغائب أيضاً وكأنها بذلك تؤكد حضوره في حفل خطوبة شقيقته!!
سريالية الغياب عبر الصور حالة سورية خاصة، لا يمكن تعميمها على من يعيش في الخارج، وربما لم تصل إلينا حتى الآن صور العرسان من هناك يحملون صور الخطيبات أو العرائس أو الأشقاء والشقيقات في البلد الأصلي، ربما لا تعني الصورة شيئاً هناك، لأن أصحابها سيصيرون هناك أيضاً، ستلتحق الزوجات بالعرسان، وكذلك الخطيبات والشقيقات أيضاً سيفرحن كثيراً بالسفر والهجرة، سيصبحن سنداً للأشقاء الوحيدين هناك، ستذكَر الأمهات بناتهن دوماً: صار نصف عدد أفراد العائلة هناك، إذن تتوجب عليك مهمة تأمين سفر شقيقك الباقي هنا، أو لا تترددي في تأمين فرصة للزواج في المغترب أيضاً لشقيقاتك، تصير للصورة مهمة تتجاوز الشوق وكسر حاجز الغياب، عليها القيام بلم شمل العائلات بشكل أساسي، تهرب الصور عن الجدران، وخاصة المكبّرة منها، ومن الدرج والخزائن والألبومات، لتحمل بالأيدي ولتشارك في عملية التقاط الصور، وكأنها تقول أنا هنا فلا تحاولوا النسيان ولا تبالغوا في تثبيت الغياب.
السريالية السورية محاولة للفكاك من مخالب الغياب، لليّ عنق النسيان، لكن وللأسف، يتساوى الحزن والفرح في عملية استحضار الغائبين عبر صورهم، حتى في صور الأفراح سيبهت الفرح فجأة، سيطوف السؤال في مخيلة جميع المتابعين للصور: من يكون هؤلاء؟ سيأتي الجواب سريعاً، تتناقله الأخبار والتعليقات، وسيطمئن الجميع لأن كل الحاضرين أحياء وموجودون فعلياً رغم الغياب.
الفارق الجوهري هنا أن الأمهات لا يرقصن في الأفراح وهن يحملن صور الأبناء الغائبين، يقتلهن الخوف من تماهي هذا المشهد مع ذاك المشهد المتأصل في صور الموت ومشاهد الجنازات، على السوري أين ما كان أن يشرك الصورة في الغياب من أجل تثبيت الحضور، الأحبة حاضرون رغم المسافات، والغياب مجرد وهم ثقيل وخادع.
انظروا إلى صورهم جيداً، وتأكدوا من حضورهم بيننا ملتصقين على فساتين الأفراح اللامعة، وحاضرين ضمن الإطارات على الكراسي الملاصقة في صالات الأفراح.
ونحن الحاضرون رغم الغياب، والغائبون رغم كل سطوة الحضور، نلجأ إلى أبعد المسافات لنعلن التمام شمل العائلات عبر الصور.