سينما ضد التوحد
تراجعت حظوظ الأفلام السينمائية بالمشاهدة الجماعية، تناقص بشدة عدد دور العرض للأفلام السينمائية لعدم جدواها كمشروع تجاري أولاً، وبسبب انحسار الإقبال الجماهيري عليها لأسباب عديدة، لكن أهمها عجزها عن مواكبة الإنتاجات الأحدث أو التي تأخذ انتشاراً إعلامياً واسعاً.
ولمّا تصل بعد إلى شاشات العرض لارتفاع كلفة ذلك، وتعذّر الحصول على موافقات سريعة للعرض. أما ما بقي مستمراً فهو يعاني بشدة من العدد القليل للمشاهدين، وهذا مرده لسببين، أولهما ارتفاع أسعار بطاقات السينما وكلفة الوصول إلى صالات العرض، وثانيهما اعتماد أغلبية رواد وعشاق الفن السابع على المشاهدة بشكل فردي أو ضمن دائرة قد لا يتجاوز عدد أفرادها الثلاثة أو الأربعة بأحسن حال.
بصريح العبارة، لقد سرقت وسائل التواصل الاجتماعي البريق من صالات السينما، خصوصاً بعد تنامي المقدرة التقنية على قرصنة الأفلام المنتجة حديثاً، ولا سيما الحاصلة على جوائز عالمية مثل الأوسكار وسواها، والأكثر خطراً ومدعاة للتأسف غياب الروح الجماعية للمشاهدة، وربما الأصح هو اندثارها، حتى كادت مشاهدة الأفلام السينمائية أن تتحول إلى طقس فرداني متوحد مع الشخص الذي يشاهد الأفلام بمفرده في عزلته الخاصة وبعيداً جداً عن مشاركة رواد السينما الشركاء في المشاهدة في ردود أفعالهم. لقد خسر العشاق والمتابعون للأفلام السينمائية على الخصوص، وضمن مساحتهم الضيقة والمحدودة والخاصة جداً، وربما الانتقائية بحذر مبالغ به، خسروا العلاقة مع عشاق السينما بشكل عام، كذلك خسروها حتى مع بائع التذاكر ومفتش التذاكر وصاحب البوفيه في صالات السينما، أي بمعنى آخر لقد خسرت السينما، خصوصاً في بلادنا، جماهيريتها وروادها التقليديين.
كذلك إن الإنتاج الوافر للأفلام القصيرة والقصيرة جداً وأفلام المبادرات أو الأفلام التجريبية لمشاريع فنية لمجموعات غير مختصة بالسينما، وبخاصة سينما الشباب والمتوافرة بيسر وسهولة على مواقع العروض في وسائل التواصل الاجتماعي، كلها قد ساهمت في التوجه نحو المشاهدة الفردانية على تلك المنصات أو المواقع.
سرقت وسائل التواصل الاجتماعي البريق من صالات السينما، خاصة بعد تنامي المقدرة التقنية على قرصنة الأفلام المنتجة حديثاً
في مواجهة هذه الفردانية المبالغ بها، ثمة سينما ضد التوحد، وربما لم تنشأ أصلاً لمواجهة هذا التوحد، ولكنها ظهرت أساساً من أجل لمّ شمل هواة السينما وخصوصاً لنوعيات محددة من الأفلام لا تشتريها صالات العرض ولا تظن أنها مربحة أو جماهيرية بالمعنى الواسع للكلمة.
وسينما ضد التوحد هي النوادي السينمائية التي تستقطب جمهوراً متنوعاً، ليس نخبوياً بالكامل ولا شعبوياً بالكامل أيضاً، لكنه جمهور جدي، مواظب وينتمي إلى المكان بكل تفاصيله إلى درجة نشوء علاقات اجتماعية وصداقات تتجاوز جدران صالات النوادي وتوقيت العروض.
الميزة الأكبر في تلك النوادي هي عناوين الأفلام، التي تكون غالباً خارج قوائم أفلام هوليوود أو الأفلام الرائجة تجارياً، إنها أفلام تبدو غير مشهورة تجارياً أو فنياً، لكنها سينما حقيقية تنتصر لقضايا الناس وتحافظ بذات الوقت على تفاصيل الرؤية أو الفرجة السينمائية. وتراعي شروط الفرجة السينمائية الفنية بجودة عالية وغير مبتذلة.
الأهم في ديناميكية هذه النوادي استعادة روح التشارك في مشاهدة فرجة جماعية، تختصر المسافات نحو التعرف إلى أذواق رواد النوادي، لغتهم، مواقفهم التلقائية حيال العرض وحيال الشركاء في المشاهدة. إنها فعلياً سينما ضد التوحد، تعالج ربما الوحدة القاتلة التي باتت إحدى سمات العصر وبخاصة للشباب وللمتقدمين في العمر الذين تجاوزوا سنّ التقاعد، أو العزلة المحددة بالالتزام القسري بأشخاص معينين حتى تتحول ملازمتهم إلى قسوة بالغة وإلى نمط حياة روتيني خانق.
ويتجلّى الأثر العلاجي للتوحد في أثناء النقاش ما بعد العرض، الآراء المتعددة، الإضافات المتخصصة من مشاهدين يمتلكون خلفيات متخصصة مثل الموسيقا والجغرافيا وعدد كبير بجعبتهم من المشاهدات السينمائية، تتحول اللغة المتبادلة إلى أدوات تعريف وتعارف للشركاء والشريكات في سياق جماعي تآلفي وربما تعاقدي أيضاً.
النوادي السينمائية هي فعلياً إنعاش للسينما كفن سابع ومميز، وهي فعلياً إحياء لسينما ضد التوحد في زمن بات فيه التوحد اتجاهاً انعزالياً ومهزوماً.