صعوبة اللغة العربيّة.. حقائق وافتراءات
اللغة مصدر ثقافة الأمم، وهي بمثابة الشريان الرئيس لهُوِيَّة الشعوب، ولذا فإنّ تعلّمها وتعليمها وإتقانها يجب أن يكون هدفًا في حدِّ ذاته، وليس وسيلة لإدراك أهدافٍ حياتية. واللغة العربية تكتسبُ خصوصيةً في هذا الإطار، لكونها لغة القرآن الكريم، فهي بذلك تكون مكوّناً أساسياً لهُويّة المسلم بصرفِ النظر عن لُغته الأم. ولا شك أنّ تعلّم اللغة العربية للناطقين بغيرها خصوصًا، تعتريه صعوبات جمَّة. وفي هذا السياق، قام المعهد الأميركي للخدمة الخارجية (إحدى المؤسسات الحكومية الفيدرالية الأميركية)، بترتيبٍ معياري دقيق لدرجة صعوبة تعلّم اللغات الأجنبية بالنسبة إلى الناطقين بالإنكليزية، فجاءت اللغة العربية في المرتبة الأخيرة، أي الأكثر صعوبة، إلى جانب الصينية (ماندرين)، ولهذا الترتيب دلالات وتأويلات مهمة تستدعي مناقشة مُتأنية لفصل ما هو مسيَّس ومُغرِض منها، عمّا هو موضوعي وموثوق.
من المتعارف عليه أنّ اللغة العربية تتميّز بخواص فريدة لا تتوافرُ في اللغات الأخرى، ويصعب معها عقد مقارنة عادلة مع باقي اللغات، فاللغة العربيةُ لُغَة اشتقاقية بالمقام الأوّل، ما يعطيها ذخرًا هائلًا من الكلمات المشتقة، ذات الدلالة اللُغَويَّة المختلفة، كما تتميّز بأبجديةٍ فريدة. فالأحرف المسطورة والحركات القصيرة (التشكيل) مُكَمِّلان لبعضهما البعض وضروريَّان للنطق والفهم السليم. واللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ تَتفَرَّد بوجودِ منظومة الإعراب والبناء التي تضبط أواخر الكلمات، سواء رفعًا أو نصبًا أو جرًا أو جزمًا أو حذفًا، وذلك طبقًا لموضعِ الكلمة ودورها في بناءِ الجملة، الذي عَرَّفه النحاةُ إجمالًا بكونه "عِلم الجُملة"، والذي يكتسبُ أهميةً قصوى في فهمِ النصًّ القرآني وتدبّر معانيه واستقاء دلالاته على النحو الأمثل، بما يعطي العَرَبِيَّةَ أبعادًا بلاغية وجمالية ووظيفية لا متناهية. ولكن كلّ ما سبق من فرائد لغوية لا يعني بالضرورة التعقيد والجمود اللغوي، على العكس من ذلك فهو مؤشر على المرونة والتكيُّف لاستيعاب كافة ألوان ومستويات الطيف الثقافي والاجتماعي والتعليمي من الناطقين بها أو بغيرها. مثلًا، متعلّمو العَرَبِيَّة، ليسوا مضطرين أو محتاجين لتعلّم المصطلحات التراثية، ولا الخوض في اللُّغَة البلاغية والقرآنية.
في أيّ عملية تعليمية يرتكزُ تحقيق الأهداف التعليمية المرْجُوَّة على ثلاثة أركان رئيسة: هي أولًا، إعداد المُعَلّم أو مقدّم المادة العلمية. وثانيًا، البيئة الناقلة، أي كيفية توظيف الوسائط التعليمية التي ستنقل المادة العلمية. وثالثًا، إعداد الفئة المستهدفة المتلقية للمادة العلمية.
غياب خطط "إعداد المُعَلِم" واعتماد الوسائل والوسائط التعليمية التقليدية التى عفا عليها الزمن
لاحظ أنّ تلك الركائز لم تتطرّق إلى درجة "صعوبة المادة العلمية" لأنّ صعوبة المادة العلمية (اللغة العربية كمثال) يمكن أن تُذلل بشكل كبير لو تم الاعتناء الكافي بالركائز الثلاثة سالفة الذِّكر، ألا وهي إعداد المدرس وإكسابه المهارات التربوية الأساسية والمستندة إلى نظرياتِ التعلّم الحديثة، وحسن استغلال واستحداث الوسائط التعليمية التي ستنقل المادة العلمية بشكلٍ ماتع، وبأقلّ هدرٍ ممكن من الوقت والجهد، وأخيرًا الاعتناء بخصائص الفئة المستهدفة (الطلاب) من حيث حصيلتهم الثقافية والعلمية الموجودة والكامنة ومدى ملاءمتها للمادة اللغوية المُدرَّسة.
لقد أثبتت التجارب والدراسات العملية الموثوقة أنّ إتقان الأطفال للعربية الفصحى، بواسطة برامج الرسوم المتحرّكة للأطفال، ممكن بشرط اتباع منهج تربوي سليم، مصحوبًا بحالةٍ مجتمعيةٍ جاذبة وحاضنة وحامية لوضعية اللغة العربية، كما أنّ إتقان الناطقين بغير العربية للعربية الفصحى بالرغم من تعلّمهم إياها في مراحل عمرية متقدّمة، يُعتبر دليلًا آخر على أنّ الفصحى ليست لغة "متحفية" أو "أكاديمية" فقط .
وإذا ألقينا نظرة على حال اللغة العربية في مرحلة التعليم المدرسي في عموم الوطن العربي سنجد أنّ السمة الغالبة غياب خطط "إعداد المُعَلِم"، واعتماد الوسائل والوسائط التعليمية التقليدية التي عفا عليها الزمن، بما قد يبعث على الرتابة وإطفاء شغف التعلُّم لدى الطالب، وربّما النفور من المادة ذاتها، بالإضافة إلى الحالة المتردّية التي وصلت إليها وضعية اللغة العربية في الإعلام، المقروء والمرئي، والتعليم المدرسي والجامعي، بشقيه الرسمي والخاص.. فكيف لنا أن نتناول موضوع "صعوبة" اللغة العربية (التي لا ننكرها من حيث المبدأ) بشكلٍ موضوعي ومنهجي ونُصدر بخصوصه أحكامًا قاطعة، دون ضبط الركائز الثلاثة الأساسية سالفة الذِكر، فلا يستقيم أن نسقط أخطاء التجربة على الفكرة.
يتضحُ بشكلٍ جليّ مما سبق أنّ قضيّة "صعوبة" اللُّغَة العَرَبِيَّة قضيّة نسبية بالأساس وليست مطلقة، كما أنّها مُسيَّسة بالمقام الأوّل، وأنّ النقاشات التي تدور حولها تفتقدُ في أغلبها إلى الأسانيد العلمية التحليلية القويمة، وتكتسي في عمومها بمعاداة الهُوِيَّة الإسلامية، وفي القلب منها اللُّغَة العَرَبِيَّة. ولا عجب أنّ من يُنادون بتدوين اللهجات العامية بديلاً للفصحى وتعلّم اللغات الأجنبية على حسابِ العربيّة، هم من يروّجون لنفاد زمن الفصحى!