عن الهزيمةِ وأسبابها... بين ألونسو والعلقمي
لا شكَّ في أنّ مدرب نادي ليفركوزن الألماني، تشابي ألونسو، صنعَ معجزةً خالصةً في ألمانيا، حين أنهى هيمنة النادي البافاري العريق، والممتدّة لأكثر من عقدٍ كامل، وفكّ عقدة نادي ليفركوزن المزمنة وسنواته العجاف، فتوَّجَهُ بطلًا للبوندسليغا (الدوري الألماني) للمرّة الأولى في تاريخه، وبسجلٍّ ذهبي متفرّد، خالٍ من الخسارة، وبإمكانه خطف ثنائيةٍ تاريخية، وقد بلغ نهائي مسابقة الكأس الألمانية، أو ثلاثية إذا ما فاز بالكأس الأوروبية، وله حظوظٌ وافرةٌ للظفرِ بكليهما.
كيف لا وقد تخطّى خمسين مباراة دون خسارة في جميع المسابقات، كأطولِ سلسلةٍ يحققها فريقٌ في تاريخ كرة القدم، ومَنْ كان ليصدّق أنّه الفريقُ ذاته الذي كان في تراجعٍ دراماتيكي، ومُهدَّدًا بالنزولِ منذ موسمٍ فقط، قبل أن يتسلّمَ ألونسو زمامَ الأمور ويصنعَ المعجزة، كتلك التي صنعها المدرّب، يورغن كلوب، مع نادي ليفربول، فكان تِرْياقًا للعُقمِ الذي أصاب ناديها، فأعاده للواجهة من جديد، وأعاد لجماهيره الغفيرة مجدَها الغابِر، فلا عجب إنْ رأيتها في حفلِ وداعه تتغنّى باسمه وتُدين له بالوفاء والامتنان.
تابعتُ كلّ ذلك مثلكم وسط ما يأتينا من أخبارٍ عن كلّ تلك الصراعات والقضايا والدماء التي لم تتغيّر منذ نشأتنا، لا بل تزدادُ غَوْرًا ونزفًا، ولا نستطيع التفكير فيها دون كلّ تلك الغصّات، وذلك الألم الذي يعتصر القلب. إذ يبدو العالَم كلّه غارقًا في العنفِ نفسه والقلق ذاته. كأنّك تشاهد الفيلم نفسه كلّ يومٍ، وطبعًا لن تختلف النهايةُ إلا عند أولئك المولعين بالأفلام الهندية.
هل ما ينقصنا حقًا هو معجزةٌ كألونسو أو مخلّصٌ ككلوب، يتسلّم دكّتنا الحافلةَ بالطاقات المهزومة أو المأزومة، فيغيّر أمرَها من حالٍ إلى حال؟
ثم قلتُ في نفسي ما أظنّه يُراود خَلَدَ بعضكم: هل ما ينقصنا حقًا هو معجزةٌ كألونسو أو مخلّصٌ ككلوب، يتسلّم دكّتنا الحافلةَ بالطاقات المهزومة أو المأزومة، فيغيّر أمرَها من حالٍ إلى حال؟ أم أنّ زمن العصا السحرية قد ولّى وانتهى، وما نسميه معجزةً ليس سوى استعارة تغطي عملًا دؤوبًا تتشارك فيه أطرافٌ عِدّة مسؤوليات العمل، ولوازم النجاح، وتتداخل فيه الرغبة مع التخطيط والأحلام مع التصميم، وتختزله سذاجتنا ونظرتنا السطحية في شخصٍ أو فرد؟
لا تعجب أيّها القارئ، فلطالما ركنَ البشرُ أو أغلبهم إلى التفسيرات المسطّحة، ربّما رغبةً في التخلّص من تبعاتِ تفكيرٍ مسؤولٍ يُلزمها أو يكلفها فيُثقِلها. ففكرةُ المخلص هذه مسألةٌ قديمة قِدم الديانات في تاريخ البشر، وقد قامتْ الديانات على اختلافِ منابعها على إحياءِ وبثّ هذه الدعوى من أجل خلاصِ هذه الأمم من ظلمٍ وجُورٍ وقعا عليها. فلا تكادُ ديانةٌ، وضعية كانت أو سماوية، إلّا وقد وعدتْ بمجيء هذا المخلّص، وإنْ اختلفت التسمية. ويقابلها في الاختزال أيضًا، الركون إلى تفسيرِ الانكسارات والهزائم وردّ أسبابها إلى خائنٍ أو عميل متواطئ واحد، في تجاهلٍ صارخٍ لأسباب الفتنة أو الانهيار الحقيقية.
فابن سبأ مثلًا، وبعد التسليم بوجوده التاريخي، هو في النهاية "فرد" لا يمكن أن يكون قد تسبّب في إحداث كلّ ما حدث، خاصة أنّنا نتحدّث عن مجتمعِ الجيل الأوّل الذي تميّز بأفراده المُميّزين من الصحابة الكرام، إذ كانت هناك تناقضات داخل المجتمع الإسلامي نفسه، بعضها نتجت بسبب توسّع الدولة وزيادة الثروة، وبعضها بسببِ أخطاء أو تجاوزاتٍ، هي في النهاية جزءٌ من الطبيعة البشرية، وبعضها كان لبقايا رواسب عشائرية وصراعات قديمة... وكلّ هذا تجمّع ليكوّن ويشكّل تناقضاً بنيوياً داخل المجتمع الإسلامي المتوسّع، وما لبثَ أن توسّع التناقضُ ليصيرَ تمزّقاً، يمكن تسميته بالفتنة، ولا كبير مشكلةٍ في الإقرار بأنّ بعضَ الأقليات التي تضرّرت مع صعود المجتمع الإسلامي، قد تمكنت من استغلالِ هذه الفتنة، وحتى في تسريع نتائجها بشكلٍ أو بآخر، لكن هذا لن يلغي أنّ النتائج كانت ستحدث بكلِّ الأحوال.
التاريخ يتغيّر عبر نارٍ هادئة، قد لا يلاحظها أحدٌ لفترةٍ طويلة، إلى أن يحدث "الغليان" فجأة
ولك في ابن العلقمي مثالٌ آخر، إذ تُنسب له مسؤولية انهيار دولة الخلافة العباسية، عبر تعاونه (أيّ تعاون الطائفة التي ينتمي إليها!) مع المغول، لكن ذلك التعاون لن يكفي لتفسير ما حدث فبعد كلّ شيء، ما دام ابن العلقمي فاسداً وخائناً لهذه الدرجة أو تلك. فما الذي جعله أصلاً بمنصب وزير الخليفة غير سلطة فاسدة مثله؟! والتركيز على هذا الفرد نيابةً عن الطائفة في تفسير انهيار الدولة، يلغي سنن التدافع التي تتحكّم بصعودِ وانهيار المجتمعات، ويجعلنا نغضّ النظر عن حقيقةِ أنّ الدولة العباسية كانت في تلك الفترة على الأقل، قد أوغلت في فسادٍ وانحدارٍ وتفككٍ، جعلها عرضةً للسقوط، كما أنّه يغفل طبيعة القوة الشابة الجديدة (المغول)، الذين كانوا في أوجِ قوّتهم، ولم يلحقهم ما كان لَحِقَ المسلمين من ترفٍ وضعف.
ولعلك تقول كيف انطلقنا من ألونسو وكلوب لننتهي بابن سبأ وابن العلقمي؟ ما هذا الهذيان؟ لم يكن هذيانًا يا صديق، بل إشارة إلى أنّ التاريخ يتغيّر عبر نارٍ هادئة، قد لا يلاحظها أحدٌ لفترةٍ طويلة، إلى أن يحدث "الغليان" فجأة، فيُفسَّر الأمرُ، نجاحاً كان أم فشلاً، بهذا السبب أو ذاك.. واللبيبُ من الإشارة يفهم!