عيون ياسمينة خضرا الملونة بـ "الاعتداء"!
صرّح الكاتب ياسمينة خضرا، قائلاً: "من يفرح بما قامت به حركة حماس لا يستحق أن يكون إنساناً".
نعم هكذا يضعُ الكثيرون لأنفسهم قواعد عمّن هو الإنسان دون غيره، مثلما يضع المنتصرون في الحروب من يحق له امتلاك حق النقض في مجلس الأمن!
إنّ معرفة الإنسان لن تسرّ يا ياسمينا، حتى الفرح لا يعني الفرح بموت الضحايا بقدر ما هو فرح لمحاولة الضحية الوقوف مجدّداً، فرحٌ لأجل المحاولة، فالكائن الأكثر وحشية على هذه الأرض ليس مَن حزن أو فرح في تعريف الإنسان، إنّ الإنسان هو الوحش، لذلك سيسرنا لحظتها ألا نتشرّف بكوننا "إنساناً"، الكائن الذي صنع المجازر، وسرق حتى جلود الفلسطينيين الشهداء التّي لم تمرّ جثتهم على التشريح الجنائي ليصبح للجزار أكبر بنك جلود في العالم لمعالجة الحروق وسرطان الجلد.
فهل أخفى عنّا الكاتب نظرته؟
ياسمينة خضرا ليس ببعيد عن فكرة التعايش مع الأمر الواقع الذّي فرضته القوة، لكنّه ضد التعايش مع فكرة أن تغيّر القوة نفسها مكانها، مستخدماً لذلك مصطلح "الإنسانية" السائل الذي تسلقت عليه أكبر الهيئات الإجرامية، ورأيه اليوم لا يختلف عن رأيه في الأمس، وهي الفكرة التي كتب بها عمله "فضل الليل على النهار"، إذ أعاد صياغتها تحت اسم أبطال جدد ومظلة جديدة في روايته "الاعتداء" (أو الصدمة بترجمة أخرى)، في العمل الأول يريد منك الكاتب أن تشعر عن طريق استخدام العاطفة الساذجة بجريمة الفراق، فراق الجزائر عن فرنسا، الأمر الذّي استخدمه الكاتب، ألبير كامو، في عمله "الغريب". والذي يحصل، أنّه حينما تنهي العمل بعد أن تكون تماهيت مع الأحداث العاطفية تنسى الحقائق، وستدين العربي. نعم سيصل بك، ألبير كامو، للتعاطف مع الجلاد، وجلد الضحية، وهذه هي الطريقة التّي يتغنّى بها ياسمينة خضرا ويحبّها الغرب. أمّا عمله الثاني "الاعتداء"، فيريدك أن تثق بأنّ أيّ دفاع عن النفس ما هو إلا عملية إرهابية.
فمن هو المعتدي في رواية "الاعتداء" لخضرا؟
حينما هنّأت السفارة الأميركية في الجزائر الكاتب، ياسمينا خضرا، على تبني روايته "الاعتداء" من طرف منصة نتفليكس، ليتم تحويلها إلى مسلسل بالتعاون مع المنتج الأميركي ميشال كوبيسك، عمّت بين الناس موجات فرح، والناس تصفق قبل أن يبدأ السياسي أو الضابط الحديث، لكن هل قرأ المصفقون العمل؟. طبعا لا، فالذين غضبوا من تصريحه اليوم هم أنفسهم الذّين صفقوا لعمله بالأمس، العمل الذي يتطابق وتصريحاته اليوم، إنّه يؤكد ما أوحى إليه، وما وصل للعالم عبر رسالته المتخفيّة بين الأسطر، متناسياً أنّ التعايش الذّي يرمي إليه لا يعني سوى المزيد من الاعتداء على بيوت وأراضي الفلسطينيين، ولم تكن هذه المرّة الأولى التّي يتحوّل فيها عمل "الاعتداء" إلى دراما، فقد سبقهم إليه المخرج اللبناني زياد الدويري، حينما أصدر فيلمه المقتبس بعنوان "الصدمة"، وعلى إثر هذا العمل تمّ اتهامه بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ووصل الأمر حتى جامعة الدول العربية، وقامت المحكمة العسكرية اللبنانية باستدعائه للمساءلة، وقُوطع الفيلم في العديد من الدول العربية، لكن كيف بدا للطرف الآخر؟ ما الحكاية؟
التعايش الذّي يرمي إليه ياسمينة خضرا لا يعني سوى المزيد من الاعتداء على بيوت وأراضي الفلسطينيين
الطبيب الجراح الفلسطيني، أمين جعفري، هو بطل ياسمينة خضرا المتخيّل، هاجس الكاتب وطموحه، وربّما ألمه أيضاً، لقد أصبح فرداً من الكذبة الصهيونية، فلسطيني متزوّج من امرأة عربية يحمل كلاهما جنسية الكيان. ويستهل الكاتب روايته من النهاية، أي من قصف إسرائيل لأحد شيوخ المقاومة، ثم ينتقل بنا إلى الأسباب، ولا نعلم هل بعودتنا لمعرفة الحكاية من تلك البداية التي اختارها ياسمينة نوع من التبرير الذي لم نسمع عنه لأجل الضحية الحقيقي، أم أنّه موقفٌ غاضب على التعايش المنتهك؟
لقد قضى الجرّاح أوقاتاً عصيبة محاولاً إنقاذ أكثر عدد من الجرحى والمصابين في تفجير انتحاري قام به فلسطيني في مطعم بتل أبيب، وانهماك الطبيب في تلك الليلة سيغذّي لاحقاً جانبين في الرواية، الجانب الإنساني، والجانب النفساني، عبر التخلّص من العيون التي تدينه، فأصدقاؤه الذّين يحبونه كثيراً بالرغم من أصوله سيتذكرون أنه مجرّد فلسطيني فجأة، ويشرح ياسمينة ذلك في وصفه للحالة التّي أحاطت بالبطل أثناء عودته إلى بيته. فالصورة الملائكية التي يجيد الكاتب صناعتها حول الحياة داخل مجتمع يخوض حرب استنزاف تنتهي بك إلى الضبابية دائماً، حتى مع معرفتنا أنّ زوجته هي من كانت تحمل الحزام الناسف، وهي من أقدمت على ارتكاب تلك العملية الانتحارية.
اعتبر النقاد العرب هذا العمل جريمة في حق الفلسطينيين، فمن خلاله قدّم الكاتب مفهوم "الدفاع عن النفس" على أنّه "عمل إرهابي" واتهموه بالإساءة للقضية الفلسطينية، فردّ عليهم قائلا إنه لا يصفق للفلسطينيين لكنه يدافع عنهم بطريقة ذكية، ولا نعرفُ عن أيّ دفاع يتحدث ياسمينة، هل دفاع تسليم الأراضي ومفاتيح البيوت دون مقاومة، أم دفاع بالمسدسات المائية؟ فيما تلقى الجانب الآخر الرواية، بالكثير من الحبور، تناولوها كوليمة دسمة وجب تبنيها في أوقات كيومنا هذا، حتى قال عنها الناقد تسور أرليخ: "هذا الكاتب العربي لا ينتقد الإرهابيين العرب فحسب، بل يُظهر قرفا اتجاههم، إنّه أيضا يُكذّب فكرة قتل جيش الكيان للأطفال ويرفض تقريبا أي تفاهم مع العرب الانتحاريين، إنه شجاع ويستحق التقدير".
في روايته "الاعتداء"، يريدك ياسمينة خضرا أن تثق بأنّ أيّ دفاع عن النفس ما هو إلا عملية إرهابية
لقد نقل الكاتب السكين المليئة بالدماء من يد القاتل إلى يد القتيل ببرودة، واعتبر أرليخ إياه، أنّ قيام امرأة عربية تعيش جيداً في الكيان بعملية انتحارية دليل أنّ المشكل ليس في الفقر والقمع في تلميح منه أنّ الإرهاب أمر متوارث عند العرب. نحن هنا نشاهدُ تماما ما روّج له الكاتب، أو ما آمن به، ربّما هذا ما أغضبه أيضا، أي ظهور نواياه المهزوزة على أرض الواقع. أما الندوة التّي أقامتها صحيفة لو فيغارو، للاحتفاء بالعمل فقد انتهت بقذف أحد المتحدثين اليهود المتعصبين الكتاب بوجه الكاتب معتبراً أنّه من العار عليه أن يمتدح العمليات الانتحارية، وأنّه ما كان يتوّجب عليه أن يعطي الفلسـطينيين أيّ صوت من الأساس.
لكن ياسمينا يرجع موقفه دائماً إلى تجربته الشخصية، إنّه ضابط سابق شارك في الحرب الأهلية الجزائرية ضد الإرهاب، وموقفه تجاه التعايش هو موقف ضد الحروب كلها، ضد الخسارة، وقد لخصه في معرض ردّه على الصحافي الإسرائيلي غويل بينتو: "لقد شاركت في الحروب وأعرف أنها عبارة عن لحظات من العار وليس من المجد، البشرية مرّت بأشياء مريعة، وفي كلّ مرة استطاعت أن تتعلم شيئا، ومع هذا فأنتم تواصلون الحرب منذ ستين عاما، هذا يدل من وجهة نظري على أنكم جنود فحسب في حرب تديرها قوى خارجية أكبر منكم".
فمن هو المعتدي في عمل "الاعتداء"؟ هل من المعقول أن يكون الكاتب نفسه؟ ربما.