فوق الموتة عصة القبر
يكرس شهر أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام للتذكير بمرض سرطان الثدي ويحدد يوم العشرين منه كيوم للناجيات من براثن هذا المرض اللعين. ثمة تحول قد لا تنتبه له الغالبية، وهو مجرد رقم والرقم هنا ليس مجرد أداة إحصاء أو قياس بل مؤشر للحياة، كان الرقم المتداول هو امرأة من كل ثماني سيدات تتعرض للإصابة بسرطان الثدي، لكن هذا العام تم تداول رقم جديد! كل سيدة من بين إحدى عشرة سيدة تتعرض للإصابة، إذن لقد نجت ثلاث سيدات إضافيات، يا للسعادة!، والنجاة هنا هي حتى من احتمال الإصابة وليس من الإصابة ذاتها.
يخفي الفرح بالنجاة أو بالشفاء آلاماً صامتة، وأولها علاقة المرأة بجسدها وخاصة من تعرّضت منهن لاستئصال الثدي وليس آخرها ظلم المجتمع وخاصة الأزواج والشركاء.
لورا سيدة مصابة بسرطان الثدي، متزوجة من طبيب أسنان، أصرّ على الدخول معها لغرفة العمليات، تعاملت لورا مع هذه المبادرة بشكر غامر لزوجها، لكن الحقيقة خالفت كل مشاعرها، بعد ثلاثة أشهر طالبها زوجها بإجراء عملية لترميم الثدي، هو يعرف تماماً أنّ هذا الإجراء مخالف لقواعد الطب وأصوله، لكنه فاجأ طبيب الجراحة بجواب ألزمه الصمت وسبب الإغماء للزوجة التي لم تتخيل أنها قد تسمع جواباً كهذا من زوجها وفي عيادة الطبيب! قال بالحرف الواحد: منذ لحظة استئصال الثدي وموقفي من جسد زوجتي قد تغيّر بشكل جذري، أريد تصنيع ثدي لها بأسرع وقت وإلا فلن نكون زوجين أبداً.
تبدو علاقة المرأة مع سرطان الثدي تحديداً علاقة خاصة، ليس مع جسدها فحسب بل مع صورتها أمام المجتمع وخاصة الحلقة الأقرب وتحديداً الزوج
سعت نهاد بعد استئصال ثديها للمحافظة على مكانه ممتلئاً، حشته في الفترة الأولى وفور نزع الضماد بقطعة قماش كبيرة، وواظبت على ارتداء حمالة الصدر رغم الألم الذي يسببه ارتداؤها، كانت مصرّة على أن توحي لزوجها وربما تقنعه بأن لا شيء قد تغيّر، لكنه ذات يوم، طلب منها وبشكل حاسم التوقف عما أسماه تحايلاً سخيفاً يقلل من قيمة زوجها بحيث يبدو وكأنه وحش لا يقدّر وضع زوجته ولا يتقبل جسدها مهما تغيّر. بكت نهاد يومها بشدة، أبكاها الفراغ الكبير الذي بات حقيقة لا يمكنها تجاهلها وبكت فرحاً بموقف زوجها. تفرح النساء بالمواقف الحقيقية، تفرح ولكن بدموعها لأنّ لحظة دعم توافقت مع لحظة اعتراف بالفقد.
على جدار في غرفة نومها، كانت مها تعلق ضفيرتها التي قصتها طوعاً وبإرادتها قبل البدء بالعلاج الكيميائي، كي لا تشهد سقوط شعرها يومياً
تحتفل الناجيات بنجاتهن ويتبادلن قصص النجاة وكأنها الرباط المقدس مع استمرار الحياة، تجرأت نساء كثيرات على سرد قصصهن وصنعن من تجربة الإصابة مرجعاً للدعم أو مرجعاً للمعرفة ونقلها للنساء مصابات كن أو ناجيات أو معرضات للإصابة، لكن خطواتهن لم تكن دوماً محط تقدير أو تقبّل من المجتمع، طالبهن البعض بالتوقف عن سرد حكاياتهن بذريعة الخوف من عدوى الإصابة أو عدم القدر على تحمّل سماع قصص مؤلمة.
قررت سوسن المجاهرة بإصابتها بسرطان الثدي أمام المجتمع، قررت الخروج بثدي واحد دون ملء مكانه، واجهها المجتمع بتأسف غير معلن، وباستهجان صامت يدين شكلها الجديد، وكأنه نقص أساسي في شخصيتها وليس في جسدها فقط، وأثار تصرفها غضب العائلة وخاصة أمها وأخواتها، قالت لها أمها: أفخورة بنفسك وأنت على هذا الحال؟ أتريدين أن يتعرف كل الناس إلى قصتك؟ أما أختها فقد لامتها على هذا التصرف بذريعة أنها لم تجد جواباً لابنتها عندما سألتها ببراءة طفولية: أين ذهب الثدي الثاني لخالتي؟ وأردفت: هل تريدين مني أن أجرح مشاعر طفلتي الصغيرة وأنا أروي لها عذاباتك التي تفوق تفاصيلها وألمها عمرها البريء والغض؟
هنا، يصدق المثل القائل: بعد الموتة عصة القبر، إذ لا يكفي المصابات شبح الإصابة وآلامها والذي تصفه بعضهن بالموت، بل يبتلعن الغصات يومياً جراء التعامل المجتمعي مع إصابتهن.
مع مرض السرطان تغدو القوة الكامنة والطاقة الإيجابية في التعامل معه شأناً خاصاً جداً لا يمكن تعميمه، وتختلف مستويات تقبّل الإصابة من سيدة لأخرى، كما تختلف مستويات التحمل، قد يخون الجسد صاحبته ويضعف حتى قوتها النفسية وقد تقرر السيدة المصابة تحدي المرض وعواقبه، وتبني من الضعف صلابة، وهنا تتحول تجربة هذه السيدة إلى مورد ناجع قابل للاستثمار فيه وبه، فتنجو المريضة وينجو معها مجتمعها العائلي الضيق وقد تتحول إلى جهة داعمة ومساندة لأخريات وربما لمجتمع بكامله.
أهدت مها "باروكة" الشعر المستعار التي ارتدتها بعد فقدانها التام لشعرها، لسيدة أنهت لتوها علاجها الكيميائي وفقدت شعرها حديثاً جراءه، وطلبت منها وبإصرار منح "الباروكة" لامرأة مصابة أخرى. كانت مها بفعلها هذا تؤسس لمناخ داعم لمريضات السرطان، وخير الدعم يكون حين تطلب من ناجية البحث عن مصابة أخرى لدعمها، دعم يتولد من الفاجعة، من المواجهة، ومن قرار الاستمرار حتى النجاة الكاملة.
على جدار في غرفة نومها، كانت مها تعلق ضفيرتها التي قصتها طوعاً وبإرادتها قبل البدء بالعلاج الكيميائي، كي لا تشهد سقوط شعرها يومياً، وكي تمنح نفسها قوة مسبقة لمواجهة أعراض المرض وتفاصيل العلاج بصلابة وتفاؤل وإقبال على الحياة دون عصّات.