كسر طوقِ الهزائم
أفكّرُ في الموتِ كثيرًا هذه الأيّام، كما كنتُ أفعلُ لسنين طوال في زنزانتي الانفراديّة (فقدًا للجدوى أو للأمل، لا أعرف)؛ لعلّه الدم الذي أغرقَ حياتنا لنصف عامٍ ويزيد وتطبيع الكلّ معه بعد فُجاءته الأولى، أو لعلّه امتلاؤنا بالعجز وفقدان الجدوى مطلقًا، بسبب هذه الإبادة التي اختلطَ فيها وجود المليارات بالعدم، كأنّهم لا شيء حين لا يقدرون على إطعام مُحاصرٍ أو علاج جريح ذلك الحال الذي جعل الكلّ يسأل نفسه: لماذا أعيش؟
أفكّرُ في الموتِ هنا والآن، وقد ظللتُ لآلاف الليلات أحلم باللحظةِ التي أخرجُ فيها، لأنطلق وأعبّ الحياة عبًّا: سفرًا وجريًا وتنطيطًا ورفقةً وسياقةً وبحرًا، وإذ بي أتقوقعُ منكفئًا على ذاتي (أو هاربًا منها، لا أعلم) بلا انتهاء، وحين أُخرجُ منها مضطرًّا أجدني أغتربُ في غير مواضع الاغتراب، فلا تحلو صحبة ولا يروق بال، أدّخر الصور لا أعيش لحظاتها، أحشدُ المواقف والمشاهد والوجوه استعدادً للحظةِ انخطافٍ قادمة، كأنّها استعارةٌ لا حياة؛ مجازٌ مؤقّتٌ لا تدري إلى متى؟
شيءٌ من هذا مَرَضيٌّ غالبًا، يقول طبيبي، لكنّ أشياء منه طبيعيّة حين نقاربها مع الحاصل وطاقة الإنسان، أيّ إنسانٍ، في التعاطي معها. إذ كيف يمكنُ لحياةٍ دهستها آلة الإبادة على النحو الذي نعايشه الآن، أن تستمرّ كأنّ شيئًا لم يحدث؟
وأمام إلحاح الرغبة في التطهّر الذاتي/الفرديّ في لحظاتٍ كتلك، شعورًا بلاإمكان الحراك الجماعي أو لاجدوى أيّ عمل جماعيًّا أو فرديًّا؛ تدفعنا تلك الطاقة نحو انتحاراتٍ متباينة، لننفي عن أنفسنا عارَ التواطؤ في الحاصل، ولو بنفي الوجودِ ذاته (الوجود الفاعل، أو الوجود المجرّد).
كيف يمكنُ لحياةٍ دهستها آلة الإبادة على النحو الذي نعايشه الآن، أن تستمرّ كأنّ شيئًا لم يحدث؟
صرخةُ الجندي الأميركي، آرون بوشنل، والشرطي المصري، عبد الجواد محمد، وطلّاب الجامعات حول العالم، والعاملين بغوغل، ومعتقلي التضامن مع فلسطين في مصر والأردن، وأحمد طنطاوي وحملته وحزبه، وغيرهم الكثيرين ممّن فعلوا ما بيدهم لنفي هذا العار عن أنفسهم ولو بالقفز مرّة واحدة إلى قعرِ المجهول، وتحمّلوا تبعات تلك القفزة كلٌّ على قدرِ طاقته وجرمِ السلطة في بلده، لكنّهم بقوا شعلات تضيء للقادمين ظلمة الخرَس وادّعاءات العجز واللاجدوى التي تُصدّرُ للعامّة كأنّه القدر الذي لا فِكاك منه.
ولولا صمودها المذهل، وانتصاراتها الاستراتيجيّة (عسكريًّا وإعلاميًّا ونفسيًّا) منذ السابع من أكتوبر؛ لولا ذلك الوعي بالفعل وامتداداته لقلتُ إنّها صرخة تبرُّؤ مماثلة، إلّا أنّ استمرارها على هذه الصورة يقولُ بأنّها شيء أكبر وأعمق وأوعى من مجرّد التبرّؤ، إلى إعادةِ صياغة معادلة الصراع بغير الراسخ القديم منه.
....
في المعتقل منعني عن الانتحار سعي السلطة لأنتحر، بالتعذيب والانفرادي والأدوية وغيره، كان الشعور بأنّ موتي قد يحقّقُ مراد السلطة أو جانبًا منه دافعًا لتجنّبه بأيّ ثمن (أكايدُ السلطةَ حتى في الحياة والموت): كتبتُ رسائل لنفسي على الجدران، تابعتُ بألفِ طريقةٍ مع أطباء بالخارج، لفتُّ انتباه جيران ورفاق، وناقشتُ مع نفسي بالورقة والقلم كلّ شعورٍ مررتُ به أو فكرةٍ خطرت لي لأعي ما بي وأفهم سلوكي وأضبط الأمر عند حدوده ما استطعت.
وإذا سلّمنا بقدرٍ بما رآه علماء النفس التطوّري بأنّنا "جئنا إلى الدنيا مزوّدين بجهاز عصبي يعبأ بالمكانة"، ويحدّد جدوى وجوده غالبًا بمساحةِ أثره وفاعليّته في محيطه، الآن أشعرُ أنّ شيئًا مماثلاً، وإن كان سببًا للوصولِ هنا، لكنّه يمنعني عن ذات المنزلق (لعلّها حيلة الذهن لتجنّب الهلاك، آليّته المتحايلة للبقاء يصدّرها لي كفكرة لينجو هو بنجاة الجسد الذي يحمله)، تحدّثني نفسي عن الدور والواجب والمسؤوليّة، تمامًا كما إلحاح موقفِ الأهل ومن بقيَ من الأحبّة.
وكما تتذكّر الجنادبُ تاريخَ انتصاراتها وهزائمها في قتالاتها مع الجنادب الأخرى، نفعلُ نحن (الإنسان الفرد، وجماعاته) وتفعل الدول كذلك، تتراكم فيه تاريخ الهزائم/الخسارات حتى تجعله رَضوخًا، يرجّح تمامًا أن يخسر في كلّ صراعٍ قادم؛ لقد ترسّخ لديه/فيه أنّه غير قابل للانتصار.. ولعلّ الحلّ الوحيد يكمن في كسرِ دائرةِ الهزائم المغلقة على رقبته وذهنه، تمرّدًا أو مقاومةً. تمامًا كما فعلت المقاومة في السابع من أكتوبر.. وكما فعلت كلّ مقاومة في كلّ عصر.