لماذا عادت العصبية العشائرية في سورية؟ (2)
العشيرة والثورة السورية
في بدايات الثورة طلب النظام من العائلات التي ترأس العشائر، بأن تقف معه وتساهم في قمع الثورة، فهو قد هيأها من أجل الوقوف في صفه..
فدعم النظام هذه الأسر غداة انطلاق الثورة، وذلك بتسليحها من أجل محاربة الثائرين، والتصدي لهم، لا سيما بعد تحول الثورة إلى ثورة مسلحة، ونجح في هذا، إذ قام بتوزيع السلاح على كثير من وجهاء العشائر والأسر صاحبة الجاه في المجتمع السوري، رغم وجود أشخاص في هذه الأسر رفضوا عروض النظام وفضلوا الوقوف مع الثورة، لكن هذا الأمر اقتصر على حالات فردية، حيث أن اغلب وجهاء العشائر فضلوا الوقوف مع النظام لأسباب سيأتي ذكرها.
أراد النظام من تحالفه مع شيوخ وأسر العشائر ووجهاء المجتمع عند انطلاق الثورة، كسب الشرعية من أجل الادعاء بأن كل شرائح المجتمع تقف معه، وأن من يقف ضده لا شعبية لهم في المجتمع الذي ينبذهم ولا يمثلون إلا قلة "مندسة"، وحرص على إظهار معارضيه بأنهم مجموعة من السراق والمدمنين وأنهم يتعاطون حبوب الهلوسة، وأراد القول بأن كل شرائح المجتمع تقف في صفه.
تمكن النظام من خلق فتنة داخل المجتمعات السورية، من أجل تفتيتها وإضعافها، وهذا بالطبع يحول دون توحدها ضده، واستطاع إحداث صراعات بين أولاد العم أنفسهم، فمن وقف معه من المجتمع وحمل السلاح، جابه من اصطف مع الثورة.
أسباب وقوف أغلب وجهاء العشائر والمجتمع مع النظام
عندما اندلعت الثورة، وكانت في أيام سلميتها، كانت أغلب الأسر والعائلات الارستقراطية بالمجتمع السوري قد أيدت النظام، حيث شعروا بأن هذه الثورة ستأتي بتغيرات جديدة لا توافق ما اعتادوا عليه، وهذه التغيرات ستهدد مصالحهم، فلن يكون لهم أي قيمة أو دور، لا سيما أن أغلب الثوار والمعارضين ينتمون إلى الطبقة المتوسطة التي ستحل ربما بديلاً عن تلك الأسر في زعامة المجتمع، فخشيت على مكانتها التي منحها لها النظام، والمتوارثة من عقود عديدة.
بعض من قام بالثورة ضد النظام ثار في حقيقة الأمر على هذه الأسر، التي رأى فيها النظام وامتداداته الاستبدادية والقمعية
وبعض المجتمع الغاضب الثائر على النظام ارتكب بعضاً من الأخطاء، منها أنه أشعر هذه الأسر بأنها ستحاسب بسبب دعمها للنظام قبل الثورة، كما أن أشهر الشبيحة الذين ينتمون لبعض هذه الأسر دفعوا دفعاً لكي يكون مع النظام، إذ تعرض بعضهم للاعتقال من قبل بعض الثوار أو ممن هو محسوب عليهم، أو حتى من استغل الحراك لكي يقوم بالتعرض لتلك العائلات سواء لأغراض الثأر أو السرقة أو من أجل طلب الفدية.
إضافة إلى أن "وجهاء العشائر" لم يميزوا بين الثوار الحقيقيين وبين المستفيدين من الثورة وراكبي موجتها، فاعتبروا الثورة تهديداً لحياتهم وممتلكاتهم، مما اضطرهم لحمل السلاح والوقوف مع النظام.
ومن الأسباب التي جعلت الكثير من هذه العائلات تصطف مع النظام، هو خوفها من المجهول، فإن الثورة كانت لا تحمل برنامجاً سياسياً واضحاً، وفيها تيارات عدة، فرأوا أن المشهد ضبابي، وبالتالي فضلوا البقاء مع من يعرفوه، ومن حفظ لهم هيبتهم ومصالحهم، أي النظام..
ومن الأسباب أيضا، أن تلك العائلات في العشائر وجدت أغلب من قام بالثورة من الشباب، ولذا لن يوقروا زعماء العشائر أصحاب الجاه والسؤدد، ولن يعطوهم مكانة، سيما أن الأسر مفطورة على حب المكانة والمديح، فخشيت أن من يدخل عليها من الثوار لن يقول لهم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..
وهنا أنا أتحدث عن بعض الذين وقفوا مع النظام داخل أسر شيوخ العشائر، لأسباب ليست تشبيحية، أي لأسباب اجتماعية، أما أغلب من وقف مع النظام من وجهاء العشائر وقفوا معه حباً به وتأييداً له، واستحقاراً لمن ثار ضده من أقربائهم أو بعض أفراد عشائرهم..
وهنا لا بد من القول بأن الثورة السورية كان الكثير من مسبباتها اجتماعية، فبعض من قام بالثورة ضد النظام ثار في حقيقة الأمر على هذه الأسر، التي رأى فيها النظام وامتداداته الاستبدادية والقمعية.
وأيضا فإن بعض الذين وقفوا من وجهاء العشائر مع النظام، وقفوا مخافة من الإسلاميين عندما تحولت الثورة الى السلاح، إذ أن كثيراً منهم لم يعتادوا على بعض ما جاء به الإسلاميون، مثل جلوس الشباب عندما يدخل أحد وجهاء العشيرة، إذ يضطر لمصافحتهم وهم جالسون، وذلك وفق بعض الأدبيات الدينية التي نشرت تعاليمها بعض الفصائل الإسلامية، حيث رأى هذا الشيخ أو الوجيه فيه امتهاناً واستنقاصاً لكرامته، وكذلك عدم السماح لهم بقراءة الفاتحة على المتوفى، أو أن يطلب منهم ولو بشكل مهذب إطالة الذقن وتقصير الثوب، كل هذه الأمور دفعت بعضهم للوقوف ضد الفصائل وبالتالي ضد الثورة.
وللإنصاف فإن كثيراً من الفصائل بما فيها الإسلامية حاولت التقرب من تلك الأسر وقامت بزيارة مضافاتهم ودعتهم إلى الاجتماعات من باب حفظ كيانهم والاعتراف لهم بمكانتهم، لكن كل هذه المحاولات من قبل الفصائل لكسبهم والتودد لهم فشلت في استمالة بعضهم، ونجحت باستمالة البعض في حينها، لكن كان هذا مؤقتا، فبمجرد ما دخل النظام على بعض المناطق، عادت تلك الشخصيات إلى حضنه رغم كل الجهود التي بذلت للتقرب منهم من قبل بعض الفصائل.
إلا أن الكثير من تلك الشخصيات نجحت معها جهود التقرب ولم ترجع للنظام، وفضلت أن تقيم بالمخيمات على أن تعود إليه بالرغم من سهولة عودتها، لما لها من صلات سابقة معه، كما أن لديها شخصيات يمكن أن تتوسط لها عنده للعودة دون أن يتعرض لها احد، ورفضت كل عروض النظام لها بالعودة، وآثرت البقاء في المخيمات اصطفافاً وإيماناً بالثورة.. وبغضاً للنظام..
.. يتبع