لماذا لا يعود الموتى إلى الحياة؟
ما الذي يعنيه الموت بالضبط؟
إنه لا يعني غياب الأشخاص، بل يعني أن تستيقظ لتجد جثة الشخص مضربة عن الحركة، رافضة القيام من مكانها، رافضة العمل، رافضة الأكل والشرب، رافضة الوفاء بمسؤولياتها، رافضة دفع الإيجار والفواتير والديون العالقة، رافضة كلّ شيء... هكذا ببساطة شديدة ودون مقدمات. هذا بالضبط هو الموت، إضراب ساخر وعصيان مدني فردي مفتوح وغير قابل للتفاوض.
إنها ليست مشكلة الجثة، بل مشكلتك أنت. لا يمكنك تركها هناك في الداخل ولا إخراجها إلى الشارع لإسنادها إلى الحائط والعودة إلى البيت كأنّ شيئا لم يحصل. معضلة كبيرة، طامة عظمى. لقد مات الشخص، وذلك يعني أنه تنازل عن نفسه، لم يعد يريد جثته، لم يعد محتاجاً إليها. غادر وتركها هنا كخردة النفايات، كمن يستبدل حذاء قديماً بحذاء جديد، يرتدي الجديد على كرسي مقابل لجسر أو ميناء، يعقد خيوطه جيداً، يرفع ياقة معطفه إلى أقصاها ضد نزلات البرد وضد نزلات الحنين، ينهض ويغادر دون أن يستدير، تاركاً الحذاء القديم فوق الكرسي قبالة السفن الغريقة والنوارس.
ماذا سنفعل الآن بعد أن مات الشخص؟ بعد أن غادرت روحه تاركة لنا فقط الحذاء، المعطف، القبعة، اللحم والعظام؟ ماذا سنفعل بكلّ هذه الخردة؟ ماذا سنفعل بدولاب ثيابه الكبير الذي من دون قفل؟ بأحذيته المهترئة، بكتبه القديمة، برائحته على السرير، ببصماته على الأثاث التي لم تعد لأحد، بفرشاة أسنانه وبماكينة حلاقته التي تركها بالأمس قرب حوض الأسماك الذي لا أسماك فيه. ماذا سنفعل الآن بأنفاسه التي ما زالت عالقة بين الغرف؟ إنها ورطة حقيقية. لا يمكن تركه هنا. أيضا، لا يمكن إخفاؤه خلف الستائر ولا تحت السرير. لا يبدو أنّ هناك حلاً معقولاً لهذه الكارثة. يجب التخلص منه فحسب على ما يبدو. كان عليه فعل ذلك بنفسه لكنه لم يفعل. ترك هذه المهمة العصيبة لنا، والآن حتى وإن حنطناه فسيظل نائما فقط، رافضاً القيام بأيّ نشاط، نائماً وفقط، كأن العالم كله ليل، وكأن النوم هو الخلود، وكأن الحركة هي الفناء.
لو لم يكن الموت حلاً ناجعاً لعاد كلّ الموتى إلى الحياة للبحث عن حلول أخرى
لكن التحنيط ليس حلاً مثالياً. لو أنّ البشر حنّطوا كلّ الذين ماتوا لكان الآن عدد الموتى الأحياء أكبر من عدد الأحياء الموتى. تخيّل ذلك: عالم مصنوع من المحنّطين. لن يجد الأحياء حيّزاً على هذه الأرض يمشون فوقه، ولا حقلاً يحرثونه، ولا حديقة ينزهون فيها كلابهم الكنيش الصغيرة المشعرة الجميلة والمسلية. ستتحوّل الأرض إلى متحف هائل للجحيم. كلّ من مات يجب أن يحنّط؟ كأنك تعترض على إرادة الموت وسطوته وسلطانه. كأنك تقول: لقد مت؟ حسنا هذا جيد، لكن ابق هنا إلى الأبد فوق سطح الأرض كأنك حي، غير مرئي للموت. ابق هنا وفقط، لا تفعل شيئاً، فقط ابق هكذا هادئاً ولطيفاً ومرعباً للأطفال والحوامل.
طبعاً لا يمكن للأحياء قبول شيء كهذا، إنهم يرفضون أن يبقى الأموات هنا، يرفضون أن يشاركهم الموتى الحياة، لا يريدون تذكر أنهم أيضا سيموتون، لذلك يشيدون المقابر عند أطراف المدينة وليس قرب حديقة الألعاب. لا يجب أن ترى المقبرة وأنت ذاهب إلى العمل أو إلى احتفال. الموتى يفقدون كل نفع باستثناء إخافة الأحياء. شخص نائم لا يتكلم ولا يتحرك، إنه كارثة حقيقية. ماذا يقصد بذلك؟ لا أحد يعلم. ماذا يريد بالضبط؟ لا أحد يدري. الأدهى من ذلك أنه لم يعد خائفاً من أيّ شيء. تخيّل أنك تسند رقبة ميت بركبتك وتبكي، ثم فجأة يقتحم المكان أسد هائج. ستهرب دون شك بينما سيظل الميت ثابتا في مكانه بشجاعة. عندها، الميت هو من يجب أن يبكي عليك وليس أنت.
يغلق الناس أعين الموتى، يرتدون السواد ويقيمون العزاء. هذا مضحك في حقيقة الأمر، لأنّ الموتى هم من يجب أن يقيموا العزاء للأحياء وليس العكس. ليس للميت ما يخسره ولا ما يربحه، بالتالي لماذا عليك الحزن لأجله أو البكاء؟ أنت لا تبكي في الحقيقة سوى على نفسك. لقد تنصّل الميت من كلّ شيء، نكث بكلّ وعوده وعهوده. لم يعد يخيفه قانون، ولا أمراض، ولا أوبئة، ولا مجاعات، ولا فقر، ولا غنى. لم تعد تخيفه جيوش، ولا أسلحة، ولا سموم. حتى الموت نفسه لم يعد بإمكانه إخافته، ببساطة شديدة لأنه مات وانتهى الأمر. مات فهزم حتى الموت. مات، كمن وجد حلاً أبدياً لنفسه، حلاً نهائياً لكلّ الأسئلة والأجوبة التي بلا طعم وبلا معنى وبلا هدف، حلاً ناجعاً.
ما يزال الأحياء هنا خائفين، متردّدين ومرتابين، عالقين في مخاوفهم وتردّدهم وارتيابهم
لو لم يكن الموت حلاً ناجعاً لعاد كلّ الموتى إلى الحياة للبحث عن حلول أخرى. سوى أنّ ما يحدث بالضبط هو: لا أحد يعود. لا يمكن لعاقل ترك الراحة الأبدية بعد أن ذاق حلاوتها والعودة إلى قرف الحياة وقلقها ورهابها. إنهم كمن يعبر الجسر بعد خوف وتردّد وريبة، يصلون أخيراً إلى الضفة الأخرى، بينما لا يزال الأحياء هنا خائفين، متردّدين ومرتابين، عالقين في مخاوفهم وتردّدهم وارتيابهم. يمكنهم التمتّع بالآيس كريم، وبالشمس الدافئة، وبالطعام، وبكلّ شيء في انتظار الموت. يمكنهم السفر وممارسة الرياضات والهوايات والحب، لكن لا بد من عبور الجسر ذات يوم. لا بد من التشجّع، وإن لم تتشجّع، فالجسر هو الذي سيعبرك. لا مفر من ذلك. الحس الآيس كريم، لكن حدّق في الجسر الذي يحدق فيك، والذي يستدير أينما أدرت عينيك. أما الميت فقد فعلها وانتهى الأمر. لقد عبر. لقد تخلّص ولم يعد محتاجاً للآيس كريم. عَبَرَ وورطك في جثته. تخفّف منها قبل العبور كي لا تغرقه. قذفها في اتجاهك وغادر من الشقوق ومن درفات النوافذ والأبواب. لقد هرب وتركك وحيداً داخل الأسر رفقة جثة. ماذا ستفعل الآن بهذا اللحم الذي سيتعفن في غياب صاحبه؟ وبهذه العظام التي ستهترئ؟ التحنيط لن ينفع معها، وبالضبط لن ينفع معك. تركها في صالون الضيوف أيضا لن ينفع، الصراخ في أذنها ببوق لن ينفع، صعقها بالكهرباء لتستيقظ لن ينفع، نغزها بسفود محمّى لتنتبه لن ينفع، لا شيء سينفع..
الحل الوحيد إذن هو حفر الأرض ودفنها، أو جمع الحطب وإحراقها، والعودة إلى البيت للبكاء. البكاء على أنفسنا طبعا، فالميت لم يمت فقط، بل في كلّ الأحوال ورّطنا أيضاً في إخفاء جثته، دفنها أو حرقها لإخفائها عن العيان كما يفعل القتلة بالضبط.
مات وحوّلنا إلى قتلة.