مرونة العقل والوجدان
سعيد ناشيد
لا يتوقف الشرط الأساسي المطلوب في وظائف ومهن عالم اليوم على امتلاك مهارات قوية، راسخة، واسعة، صلبة، إلخ، إذ لم يعد الأمر كذلك منذ سنوات مضت، بل ثمّة حاجة ماسة اليوم إلى أن تكون المهارات مرنة بما يكفي لكي لا تعيق القدرة على التكيّف مع المتغيّرات الوظيفية والإنتاجية المتسارعة في عالم اليوم. والواقع أنّ قوة المهارة لدى البعض، قد تصير عائقاً أمام المرونة اللازمة للتكيّف، وذلك عندما يستدعي الأمر تعديل المهارات، سواء بنحو جزئي أم كلّي.
بسبب ذلك، نفهم كيف يصبح النجاح لدى البعض ثقلاً يتسبّب في تأخرهم عن الركب، وذلك عندما يمضي الزمن سريعاً وتتقلّب الأحوال، فيصيرون بالتالي ضحايا نجاحاتهم. وفعلاً، فكثير من الناجحين سرعان ما يصيرون ضحايا نجاحهم عندما يتقوقعون داخل لحظة النجاح.
في عالم اليوم، حيث يبدو الزمن كما لو أنّه رفع من درجة السرعة، فإنّ أولى المهارات المطلوبة هي القدرة على تعديل المهارات، سواء بنحو جزئي أم كلّي، وذلك كلّما لزم الأمر. الأمر الذي يبدو كما لو أنّه مفارقة من مفارقات الحياة المعاصرة.
قوة المهارة لدى البعض قد تصير عائقاً أمام المرونة اللازمة للتكيّف، وذلك عندما يستدعي الأمر تعديل المهارات، سواء بنحو جزئي أم كلّي
المفارقة نفسها تحدث في عالم الفكر وإنتاج الأفكار، حين تصبح قوة النسق الفكري الذي يشيّده الإنسان، أو يعتنقه، عائقاً أمام مرونة التفكير لديه، فيعجز بالتالي عن التكيّف مع المعطيات المعرفية المستجدة في عالم موسوم بسرعة النمو المعرفي. بهذا النحو قد يقع الإنسان ضحية سياج معرفي قد يصنعه بنفسه ولنفسه، قبل أن يفقد مرونة التفكير، ومعاودة التفكير من جديد، كلّما استجدّ أمر أو طرأ متغيّر، أو عندما يتغيّر المحيط أو العالم، فيعيش بقية حياته تحت وقع الأسى على ما كان، أو الحنين إلى ما ليس بالإمكان.
على المنوال نفسه، هناك من المفكرين من يمضي معظم حواراته مذكّراً بما سبق أن قاله عند بداية مساره الفكري قبل عقدين أو ثلاثة.
وهذا ما ينبغي لنا إدراكه: في عالم اليوم، فإنّنا نحتاج إلى القدرة على تغيير طريقة تفكيرنا بنحو دائم، لغاية استيعاب معطيات عالم يتغيّر بسرعة فائقة، ما يعني الحاجة إلى أن يكون التفكير مرناً بما يكفي لاستيعاب الأفكار الجديدة، والتي تتجدّد كلّ يوم في كلّ مجالات المعرفة والحياة.
إلا أنّ المفارقة الأخرى أنّ معظم مناهج التعليم في مجتمعاتنا لا تكترث بتنمية التفكير المرن، والذي هو أكثر ما يحتاجه المرء في عالم اليوم، بل الأسوأ من ذلك أنّ كثيراً من المناهج تشجّع على التمسّك الغريزي بالفكرة. هنا تكمن إحدى الثغرات الكبرى في النظم التعليمية التي قد تتجاوزها سرعة الحياة.
كثير من الناجحين سرعان ما يصيرون ضحايا نجاحهم عندما يتقوقعون داخل لحظة النجاح
إنّ استيعاب فكرة جديدة ليس بالأمر الهيّن، طالما هذا يعني بلغة المعلوميات إعادة النظر في نظام البرمجة برمته. مثل هذا الجهد لا يميل إليه العقل من تلقاء نفسه. بل، يميل العقل غريزيا إلى التمسّك بنظام الأشياء الذي اعتاد عليه، والأمر نفسه يفعله مع نظام الأفكار الذي اعتاد عليه. وبهذا النحو يميل العقل إلى رفض كلّ فكرة قد تزعج نظامه الداخلي.
لذلك، نحتاج إلى مدارس ومعاهد وجامعات تنمّي القدرة على التفكير المرن، تنمّي القدرة على تعديل المهارة أو الخبرة أو طريقة العمل كلّما طرأت متغيّرات جديدة، تنمّي القدرة على تعديل الفكرة، أو طريقة التفكير، كلّما ظهرت معطيات جديدة في الحياة، وبالجملة تنمّي مرونة العقل والوجدان.
وهكذا أقول لك: في كلّ مرة تحتاج فيها إلى استيعاب فكرة جديدة، ستضطرّ إلى تغيير طريقة تفكيرك، سواء بنحو جزئي أم كلّي. كن مستعدا إذًا! لكن، من أجل ماذا في النهاية؟ من أجل أن ينمو عقلك كلّ يوم، وعلى الدوام. ومن ثمّ يغمرك فرح كبير كلّما شعرت بأنّ عقلك ينمو.. كلّ لحظة، وكلّ يوم.
ذلك أيضا هو سرّ السعادة الذي اكتشفه وكشف عنه الفلاسفة الأقدمون.