مقاهٍ وشخوص... أو كيف يختارني المقهى؟
أحبّ المقاهي بكلّ أنواعها وأشكالها، الكبيرة والصغيرة، الراقية والحقيرة، الهادئة التي ترتادها النخبة والعشاق، والشعبية التي لا يرتادها سوى الحرفيون وعشاق كرة القدم ومجانين الضواحي.
من مقهى إلى مقهى، أنقل جسدي وروحي ونظراتي الجاسوسية المريبة. مقهى مقابل للنهر والزوارق والنوارس، أو آخر مقابل للمارة والباعة وعراكات مفاجئة بالسواطير. أختار مزاج المقهى حسب مزاجي.
حين أحبّ أن أكتب أو أن أتأمل بتفلسف، متشبّهاً بالفلاسفة، أختار مقهى هادئاً، بالأحرى مقهى هادئة، إذ إنّي أفضل أن أؤنثها على أن أذكّرها، حتى وإن أصرّ النحاة واللغويون على تذكيرها. مقهى هادئة في الصباح الباكر أو في نهاية المساءات، نادلة رشيقة وفناجين نظيفة وأصص أزهار تحيط بالكراسي.
حين أغفل لحيتي كثيراً ويصير مزاجي شبيهاً بمزاج ذئب داهمه شتاء قارس، أفضّل المقاهي الشعبية المحيطة بحيي، أجلس وأرخي السمع والبصر متجسّساً على القصص والحكايات والضجيج والنساء المجلببات البدينات. الحرفيون والصناع والمياومون والمتقاعدون والعاطلون، هم أفضل القصاصين والساردين على الإطلاق. يملكون كلّ الوقت، وكلّ الخيال الخصب وكلّ المهارة والصنعة كي يحكوا حكاية أو كي يقصّوا قصة. أنصت إليهم باهتمام وتركيز دون أن ينتبهوا إلى ذلك، إذ إنّ انتباههم إلى الأمر سيفسد السرد دون شك. لا تصلني الحكاية كاملة في الغالب، تصلني جملاً متقطعة فقط، وكحات وهمهمات وعطاس وقهقهات. يكون من واجبي رغماً عني إكمال القصة من دماغي، ترقيعها وإعادة خياطتها في ثوب واحد متجانس له أكمام واضحة وفتحة صدر واضحة وتلابيب واضحة.
أختار مقهى هادئا، بالأحرى مقهى هادئة، إذ إنّي أفضل أن أؤنثها على أن أذكّرها، حتى وإن أصرّ النحاة واللغويون على تذكيرها
الضجيج والقهقهات وقرقعة الكؤوس والصحون وزعيق "كلاكسونات" السيارات والدراجات النارية المخرخشة ودخانها، وأدخنة شواء غامض مجاورة، ورائحة حشيش سرّية، وتغيّر الصور والمشاهد والألوان والمصائر في شاشة التلفزيون الكبيرة المقابلة دون صوت، إنها كلّها العجينة اللدنة للحكي والسرد والقص السحري للحياة، معيدةً تشكيل نفسها كلّ مرة كالمياه عبر الصوت والإيماءات في سرديات صغرى وكبرى مجاورة للواقع ومتجاوزة له بقساوته وفجاجته ووضوحه وسطوته وقهره. سرديات مليئة دائماً بأبطال ومعجزات وخوارق ونهايات غير متوقعة للشخوص وللزمن.
أجلس ساعة صامتاً مذهولاً بروائح الحياة وأصواتها وأسرارها وحكاياتها وشخوصها الحقيقيين الذين من لحم ودم وظَفر وخيبات، وليسوا من ورق وحبر. تأتي إلى طاولتي قطة أو عصفور أو متسوّلة عجوز تحتاج درهماً تضيفه إلى آلاف الدراهم التي جمعتها عبر حياة ناجحة ومديدة من التسوّل أو مجنون يريد سيجارة. يليّل الليل، فيتفرق الجميع تباعاً إلى أن لا تبقى هناك سوى شاشة التلفزيون قادرة وحدها على لفت الانتباه برتابة وكسل وتراخٍ. أنهض وأنسحب عائداً إلى البيت، سعيداً بكلّ هذا الزخم الحي الذي تمنحه لي المقهى كلّ مرّة مجاناً، وبسخاء دون أن أمنحها شيئاً.
في الغد أجلس في مقهى أخرى هادئة، في صباح باكر ومشمس، قبالة كنيسة أو قبالة الترامواي. أكتب وأقرأ وأفكر، ساهماً، ساهياً، منفصلاً عن العالم، ويكون ذلك كله بتأثير طعم قهوة جيدة ومركزة دون شك، وليس لأسباب أخرى. أكتب بجدية كبيرة بعض الملاحظات وبعض التأملات الفلسفية التي تبدو لي حينها عميقة، والتي لا أحتاجها عادة بعد ذلك أبداً، ولا أرجع إليها أبداً.
في غياب الأصدقاء، تقدم المقهى نفسها دائما صديقة بديلة، صديقة جميلة ومبتسمة ومعطاء، تؤنس وحدتك وتفتّت وحشتك
لا يكسر التوّرط في جدية كلّ ذلك سوى مرور فتاة جميلة ورقيقة، أسمع قرقعة حذائها، أتأمل ألوان ثيابها وقصة شعرها، وأشم عطرها. تمرّ وتتبعها نظراتي لأرى مشيتها المتمايلة باتساق هندسي شديد، شمالاً ويميناً، في رقصة أزلية للأنوثة. أتأملها مثل رسام انطباعي يدقق في تفاصيل مشهد يهم برسمه. أنسى حينها المعضلات الفلسفية الكبيرة التي تهاجمني غير مدركة أنّي الشخص الخطأ. أتأكد أنّ تأمل فتاة جميلة تمرّ كلوحة متحرّكة بثياب متناسقة وقصة شعر هفهافة ومكياج وعطر، أعمق من كلّ القواميس الفلسفية وأكثر فائدة للعين وللقلب وللروح.
إنه معرض يومي متحرّك عبر الشارع للوحات لا يتوقف ولا يفسده إلا منظر سكير أشعث يخرج صباحاً، ثملاً من بار تيرمينيس في اتجاه عراك أو في اتجاه حادثة سير أكيدة.
أحمل حقيبتي على ظهري كالسائح، وأتمشى طويلاً في المدينة حتى السويقة، ثم حتى الأوداية، ثم حتى المحيط، لأتأمل كشاعر كلاسيكي المنارة والنوارس والأفق البعيد الذي لا يتعب أبداً من بعده.
في غياب الأصدقاء، تقدم المقهى نفسها دائماً صديقة بديلة، صديقة جميلة ومبتسمة ومعطاء، تؤنس وحدتك وتفتّت وحشتك.
أجلس دائماً في الكراسي الأمامية، ملغياً باقي رواد المقهى، خصوصاً حين تكون المقهى ذكورية مزدحمة ينقصها أن تتأنث بسيدات وآنسات وقطط أليفة وبمقولة ابن عربي: "كلّ ما لا يؤنث لا يعوّل عليه".
أرخي شباك السمع متنصتاً على الجالسين، بينما عيني على المارة وعلى السماء والأشجار إن كانت هناك أشجار. أراقب روّاد المقهى بأذني فقط، تاركاً لهم أن يراقبوا قفاي إن شاؤوا ذلك، قفاي التي لا أعرف لزوماً لها ولا معنى، والتي أنا نفسي لم يسبق لي أن رأيتها، ولا أن رأتني. إنها على رأي جدنا المعرّي: "لزوم ما لا يلزم".