مُشعوذو زماننا... أيُّ حلٍّ لهم؟
من المعروف أنّ لكلِّ زمانٍ مُشعوذيه، وبطبيعةِ الحال، فإنّ زماننا لا يخلو من المشعوذين، رغم مظاهر الحداثة العقلانية التي تُحيط بنا من كلِّ حدبٍ وصوب.
مع الاختراقاتِ العظيمة التي حقّقها العلمُ الحديث على جميعِ الأصعدة، وفي جميعِ المجالات ساد اعتقادٌ ساذجٌ أنّ المشعوذين سيختفون من على وجهِ البسيطة، لكن للأسف لم يحدثْ ذلك، بل إنّ هؤلاء ظهروا بأشكالٍ أخرى، ولهذا الرجوع أسبابه الذاتية والموضوعية، وسأحاول هنا تبيان بعضها في هذا المقال القصير. ولكن قبل ذلك، يجب أولًا، أن نتوافق حول ما أعنيه بالمشعوذين. فالمشعوذُ من وجهةِ نظري هو كلُّ شخصٍ يدّعي تملّكه لمعرفةٍ أو خبرةٍ يمكن أن تحقّق السعادة لشخصٍ آخر، وفي الغالب لزبونٍ حقيقي أو مفترض. بمعنى آخر، المشعوذ هو من يبيعُ الوهمَ لزبائنه.
أما عودة الشعوذة للظهور، فتعود أساسًا إلى فقدان الثقة في العلم والمعرفة الحديثة. فبعد أن ادعى العلم الحديث في القرن التاسع عشر قدرته على حلِّ جميع مشكلات الإنسان، وبالتالي إسعادِ البشر، أصيب بانتكاسةٍ حقيقية مؤخرا، خاصة مع ما خلّفه من دمارٍ لحقِ الإنسان والحياة على وجه الأرض. وهذا الادعاء بتحقيق سعادة البشر، هو أساسًا، ضرب من ضروب الشعوذة. وهذا لا يعني أنّ العلمَ الحديث شعوذة، أو أنّ الدين شعوذة، أو أنّ المعرفة الإنسانية بجميعِ أشكالها وأصولها شعوذة، بل أعني بالشعوذة هنا، كلّ معرفةٍ إنسانية (حتى تلك التي يدّعي أصحابها أنّها سماوية) يكون رهانها الأساسي أيديولوجيًا وليس معرفيًا. والأيديولوجيا هنا بمعنى، هوس السيطرة على الإنسان والطبيعة من أجل تسخيرهما لتحقيقِ مطامع ذاتية أنانية.
نعيش مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، لا شيء فيها مضمون سلفاً
المشعوذون التقليديون الذين كانوا، ولا يزالون، يلبسون جبّة الدين لا يختلفون عن المشعوذين الذين يلبسون وزرة المختبر، أما أخطر أشكال المشعوذين حسب ظنّي، هم الطينة التي خرجت علينا من قمقم التكنولوجيا المعاصرة، والذين أَوجدوا خلطةً غريبةً عجيبةً، هي خليط من الشعوذة التقليدية التي تتوّسل بالخرافة أفقًا، مع تطعيمِ خطابها بالكثير من تأمّلات الأديان السابقة وعدد لا يُستهان به من المفاهيم المأخوذة من المجالات المعرفية الحديثة، في محاولةٍ لأخذ العصا من الوسط، وإيهام متابعيهم أو بالأحرى ضحاياهم، أنّ الخلطة التي أَوجدوا لا مثيل لها، شعارها المؤطر "الحداثة الأصيلة"، رغم أنّها لا تعدو أن تكون نوعًا من "البريكولاج" الفقير.
إنّ هؤلاء، سواء كانوا من رجال العلم أو الدين، ليسوا إلّا مشعوذين يبيعون الوهم للإنسانية، ويُوهمون ضحاياهم أنّ الخلاص ممكن عن طريق اتباع وصفاتهم المتهافتة.
"الحقيقة" الصادمة أنّه لا خلاص من هذا المأزقِ الوجودي، الممكن والمتاح، سوى بالتخفيفِ من الثقل الذي نرزح تحته كصخرة سيزيف، وذلك بأن نعي أنّه لا وجود لخلطةٍ سحريةٍ (أو كما قال أحدهم إنّ السر هو أنّه لا وجود لسر)، وأنّنا نعيش مغامرةً محفوفةً بالمخاطر، لا شيء فيها مضمون سلفًا، ورغم ذلك تستحق منّا أن نعيشها بالكثير من الشغف والحب.