الكيماوي الذي فتك بنا جميعاً
لم يصمد العراق المنهك والذي مزقتهُ العقوبات وذبحهُ حصار طويل دام ثلاثة عشر عامًا، لم يصمد أكثر من عشرين يومًا أمام الاجتياح المستند إلى شبهة وجود سلاح دمار شامل، تبين لاحقًا أنه غير موجود باعترافهم أنفسهم. وعرف العالم كيف مزقت الولايات المتحدة العراق بحجة نشر الديمقراطية والتخلص من أسلحة الدمار الشامل.
وكان للقدر كلمتهُ، فبعد عشر سنوات بالضبط، لم يكن العالم بحاجةٍ لدليل، ولا لجان تفتيش أممية. فآلاف الضحايا الذين خنقهم غاز الأسد سقطوا على مرأى الملايين ولفظوا أنفاسهم الأخيرة ببثٍ مباشر شاهده الملايين، في تلك اللحظة، سقط العالم للمرة الأخيرة أمام هيبة الموت السوري المُظلل بالقداسة.
لم يكن عالمُهم بحاجة لبرهان أو دليل، يقطعون به شكوكهم حول موتنا الصامت، موتنا بالغاز، ذلك الموت العقيم، عديم الرائحة، عديم اللون والطعم، فلم يكن إلا نومًا أبديًا على سريرٍ سماوي.
لقد فعل الأسد ما لم يفعلهُ صدام حسين، إذ امتلك سلاحًا مدمرًا، وشاملاً، ولم يكتف بامتلاكهِ، لا بل استخدمه، وأمام العالم، أمام عالم الشعارات الذي ظل صامتًا، يراقب الضحايا كيف يدوسون شعاراتهِ بأقدام موتهم. ومثلما صار للسوريين ذاكرة للرصاص، وأخرى للبارود، وأخرى للبراميل، وغيرها للاعتقال والموت تعذيبًا وقهرًا، صار لديهم ذاكرة للغاز، الكيماوي الذي قتلنا جميعًا.
اليوم هو الذكرى السادسة للهجوم الكيماوي على الغوطتين..
في تلك الليلة نام الأطفال متلفعين بكل بياض أحلامهم، استجمعوا كل طاقة الفرح ليناموا في ذلك الليل السوري المحموم بالدخان، الملطخ بدماء الإنسان وجثث الشعارات، الملوث ببؤس الأيديولوجيا، والممزوج بطعم الملح والأوجاع والبلوى.
في ذلك الليل الأخير، تلك اللحظات الأخيرة من عُمر اليقين، نام ذوو الأجساد البيضاء المُزهرة بآلاف البسمات، المتشبثة بثوب الوطن تحت سقفهِ المتروك للغربان، وأرضهِ التي تنهاشتها النُسور كأنها جيفةٌ مُدماةٌ في عراء العالم. في تلك اللحظات الأخيرة من عمر اليقين، كان أطفال الغوطتين قد حجزوا تذاكرهم للسفر الأخير نحو الانعتاق الأبدي من ظُلمة هذا العالم المسكون بالوحشية.
وكان الوعدُ فجرًا..
في السكْينة المُطلقة، قبل العاصفة، أخذت القذائف تبدو صامتةً، تمضي بسلامٍ حيث الأطفال منتظرين، وكان فجرهم الأبدي، ودون شهيقٍ مسموع ودون زفيرٍ يحشرجُ في الصدور الغضة، ظلوا على رقادهم وما أفاقوا واستفاق العالم يشاهد عبر الشاشات، أولئك الصاعدين إلى شمسهم، أولئك الصاعدين إلى الحرية، أولئك الذين انعتقوا أخيرًا من أصفاد الشُرور، ومن هذا الجحيم الأرضي الذي نعيشهُ ويكوينا لهيبهُ متمثلًا بعالمٍ أخرس وأعمى وأصم، يباركُ المُجرمين ويرمينا بأوراقٍ حقيرة عن الإنسان والحياة والحُب والحرية..
اليوم هي الذكرى السادسة بعد الألف لموتنا، وتشظينا، وتناثر غبارنا، الذكرى الرابعة بعد الألف لمنافينا، وخراب ذاكرتنا.. اليوم نقف للمرة السادسة، لننظر بعيوننا وقد اتسعت أحداقها، لننظر ونرى كيف استطاع زمن الخيبات هذا أن يحشونا جميعًا بالغاز، لكننا تعايشنا معهُ وأخذ سُمهُ يفتك بنا دون أن يُميتنا، تركنا أمواتًا لكن على قيد الحياة..