بعيداً عن التفجّع المفرط على الدم السوري أو التأليه المفخم للانتفاضة السورية، يأسرنا الشاعر السوري "عبد الوهاب عزاوي بين دفتي كتاب "موزاييك الحصار" (دار بيت المواطن)، راصداً أحوال الحصار الذي عاشه في مدينته دير الزور، منطلقاً من الشخصي الحميمي المهمل الذي يسيطر على أغلب فصول الكتاب إلى العام/الانتفاضة بعين الشاعر النقدية التي تدقق ما خلف التفاصيل، قالبة اللاوعي لعرضه تحت شمس الحقيقة ما أمكن.
لا تحضر الحرب/الثورة بقذائفها أو صراخها الوحشي أو تفجّع البشر على الدكتاتورية، إذ "حرصتُ على ألا أكتب بحزن ـ ولم أنجح دائماً ـ لأن ذلك ببساطة يفاقم الحزن. لا أرغب في التفجع أو التشفي، وإنما بالسرد الطويل دون لغة باذخة" لنكتشف لاحقا أن الكاتب يخدعنا ويقودنا بدهاء نحو حزن أشد بلاغة، حزن أصيل يرقد في الروح دون أن يغادرها، عبر أحداث وتفاصيل صغيرة تستقر في دمنا ببطء.
وكأن الطبيب علّق لنا مصل الحكاية التي لا يصيبها إلا شاعر/قناص، يواجه قناصاً/ قاتلاً يوّجه "ليزره" الأحمر على ظهر الشاعر، لنغدو أمام مواجهة بين قناص/شاعر يبحث عن الحقيقة والحياة لانتشالها
من هذا الركام، وبين قناص/قاتل يتركز جلّ جهده في قنص رواية الشاعر الذي يذهب عميقاً إلى العوالم الداخلية للبشر وقت الحصار، دون أن يهمل العالم الخارجي العقيم، مركزاً على المرئي.
إذ كيف يمكن للمرء أن ينسى التقاط "baby phone" لصوت القذيفة بدلاً من صوت طفلته "مدى"، فـ"الأمر مجرد لَبَس بين ابنتي وقذيفة"، أو حين نكتشف أن طبيباً لم يعلم أن "والده قد تُوفي في القصف ودُفن في إحدى الحدائق القريبة، إلا بعد أربعة أيام، لأنه ببساطة محاصرٌ وفاقد للكهرباء والماء والهاتف والجوال"، أو حين يصبح المكيّف قليل الثمن وذو الصوت الجهوري مريحاً لأنه يحجب صوت القذائف، الأمر الذي يحيلنا إلى تغيّر القيم والمفاهيم في ظل الحصار الذي يغدو "أيام عطل ولكنها متوترة"، يقاس الزمن فيها بالأظافر! "فأنا معتاد على تقليم أظافري كل ثلاثة إلى أربعة أيام، بحكم عملي كطبيب جراح، باتت أظافري مقياساً للزمن المقلّم بعناية".
رغم أن الشاعر تحاشى بوعي متقصد أي خطاب سياسي مباشر، كما وعدنا في المقدمة، إلا أنه فشل في ذلك، وهو أمر متوّقع، إذ كيف يمكن الهروب مما لا يُهرب منه؟ إلا أن العين النقدية الحاضرة على الدوام حوّلت الأمر إلى ميزة، حين قدّمت صورة لا مؤلّهة ولا مشيطنة للانتفاضة، كما هي، بكامل طبيعتها ونزقها وتمردها وتوحشها وصفائها وسموها عن جنون النظام في لحظات، وتلطخها فيه وحوله وتخوينه في لحظات أخرى.
وهذا كله ممهوراً بأحداث عايشها الشاعر أو سمع بها، مقارناً بين اليوم والأمس من منطلق أن "نفس المطبّلين في مسيرات النظام تحوّلوا إلى ثوار!"، محتجاً بالقول: "من أسخف التناقضات أن ينشقّ أشخاصٌ كانوا من عصب النظام لعقود" بحجة عدم تحملهم "النظام المجرم"، ما يدفع الشاعر إلى الغضب وهو الذي وعدنا بأن يبقيه خافتاً: "لست من الغباء درجة أن أُنصّب جلادي زعيماً ثورياً".
هذا الواقع المر هو ما قد يكون دفع السخرية لأن تكون حاضرة في كل تفاصيل الكتاب لتغدو منقذاً. فحين يدرك الشاعر أن ثمن قذيفة المدفع 1500 دولار، يشهق متسائلاً بدهشة: "لو قدم النظام لأي بيت ستنزل عليه القذيفة مبلغ 1500 دولار فإنه قد يقتل أفراده دهشةً".
السخرية تبلغ مداها المؤلم حين تضطر العائلة إلى الاحتماء من القصف، فيتم الاقتراح بأن تتوزع العائلة كي لا تموت كلها، ليغدو السؤال المر: "أي قسم هو المظلوم، الباقون على قيد الحياة أم القتلى؟".
يقع الشاعر أحيانً في فخ السرد الفائض في مقاطع طويلة كان يمكن الاستغناء عنها، لأن الشهادة هي أدب في نهاية المطاف، والاحتجاج بالصدق غير مقنع أدبياً وإن كان مقنعاً واقعياً. ففي مقاطع حواره مع كونديرا ودون كيشوت وغيرهم، ثمة ثقل يضغط على النص، ويقلل من طراوة التجربة المبلّلة ببخار الحصار الذي اكتشف الشاعر مزاياه حين اضطر الناس إلى دفن موتاهم في الحدائق: "لو خُيّرتُ في أن أُدفن في مقبرة أو في حديقة لاخترتُ الحديقةَ وأطفالَها"!