تركّز البحثُ في قراءة ابن خلدون على كتاب "المقدمة"، الذي اعتُمد كثيراً كمنطلق في القراءات الحداثويّة للتاريخ، إلّا أننا نقع في كتاب "حفريات في الخطاب الخلدوني: الأصول السلفية ووهم الحداثة العربية" للباحثة التونسيّة، ناجية الوريمي، بوعجيلة الصادر مؤخراً عن "المركز الثقافي العربي" و"مؤمنون بلا حدود"، على رأي مغاير في ما يتعلق بربط الخطاب الخلدوني بالحداثة.
فعل التحديث ومقوّماته وشروط تحقّقه هو ما اهتمّت به الباحثة التونسية، قبل تحليلها الخطاب الخلدوني نفسه، وتفكيك أبنيته الداخلية من أجل "الكشف عن نوعية المعاني التي يؤسّس لها، ويؤدي إلى إعادة إنتاجها عبر آليات إبستمولوجية ثابتة يلتزم بها"، مؤجّلةً مؤقتاً مجادلة من ذهَب إلى وجود مؤشرات التحديث المبكّر، وأنتج قطيعة مع منظومة فكرية تقليدية، قدّمها الخطاب الخلدوني.
تشير الوريمي إلى أنه لا يمكن فهم هذا الحضور المتزايد للنص الخلدوني في الخطاب الحداثويّ العربي، إلا باستمرار هيمنة المنطلقات التقليدية في القراءة والتأويل، حيث "أُخضع النص الخلدوني إلى قراءات عديدة، وفُهم بالانطلاق من مرجعيات أيديولوجية مختلفة، ما حجب - أو كاد - حقوله الدلاليّة الخاصة، ونوعية انتظامه في صراع الاختيارات المعرفية المتباينة التي شهدها الفكر الإسلامي القديم".
بالمقابل نُسبتْ إلى النص الخلدوني معانٍ تقرّبه من الحداثة العربية المعاصرة وشروطها الإشكالية، وهي معان أنتجتها قراءات حداثويّة صادرة عن وعي عربي إسلامي أربكته الحداثة الوافدة من الغرب، فراح يبحث عن نصّ تراثي يحتمي به من هذا الوافد، ومن خطر هيمنته، وكان منها نصوص ابن خلدون.
تعتقد المؤلفة أنه لا يمكن اعتبارُ خطابٍ ما حداثياً أو ممهداً للتحديث، إلا إذا أسّس للمعاني التي تنهض بها في مدى معين، وانخرط بشكل أو بآخر في النسق الفكري العام، ومن هذا المنطلق تتساءل "هل يمكن اعتبار النص الخلدوني نصاً مؤسّساً للحداثة؟".
إن أهم سمة معرفية للحداثة هي تجاوز الوثوقية والانفتاح على إمكانيات المساءلة والمراجعة للموروث والمتداول من الحقائق، وهو ما لم يوجد في تفكير وعمَل ابن خلدون، بحسب الوريمي، وهو ما تعتبر أنه قد صدر عن "أرثذوكسية وصراطيّة"؛ حيث ترصد نقاط الالتقاء بين نظرة ابن خلدون، والمحدّدات العقلية الفقهية في "المنظومة السنيّة"، من خلال ضرورة تقنين "علم العمران" باحتكاره المشتغلين بهذا العلم على علماء الأمة، الذين يمثّلون الفكر السنّي الرسمي الصحيح بحسب قراءة الباحثة، بالإضافة إلى التقائه في نقطة الثوابت النصية وتوظيف العقل، حيث محدّدات العقل الفقهي انطلاقه في عملية التفكير من مراجع نصّية يتم إعلاؤها وتسييجها بمسلّمات، بعيداً عن مراجعة نقدية، وتوكَل إليها سلطة معرفية غير محدودة.
اعتمد ابن خلدون على ثوابت نصّية عند أهل السنة والجماعة في المجال الثقافي، وبالمقابل تجاهل ما قدّمته القدرية والمعتزلة، مثلاً، بالإضافة إلى قدحه في ما قدمه المؤرخان المسعودي والواقدي بسبب انتمائهما المذهبي غير السنيّ، بحسب الباحثة، وتبعاً لذلك يظهر الانتقاء في تفكير ابن خلدون حتى في دعوته إلى تمحيص الأخبار باعتماد "التعديل والتجريح".
نقطة أخرى يشير إليها العمل وهي "محاربة" ابن خلدون المعارفَ التي تتأسس على نظر عقليٍّ غير مقيّدٍ، مثل علم الكلام، والفلسفة، حيث حذّر صاحب "كتاب العبر" الناظرَ بمباحث علم الكلام من النظر في قانون السببية، لأنه يفضي إلى الضلال والهلاك، في تشابهٍ مع محرّمات أبي حامد الغزاليّ، التي رتّبها الأخير على قاعدة الترتيب التفاضلي للمعارف، وهنا تستعرض الوريمي بعضاً مما ورد في "المقدمة"، حيث مقولات المعتزلة الكلامية "بدَع صرّح السلف بخلافها.. وعظم ضررها".
تستبعد الباحثة أن يكون الخطاب الخلدوني في تلك الاستبعادات صادراً عن تجنب خطورة الاختلاف، وسعيه للفصل في هذه الخلافات، حيث تؤكد أن الثقافة الإسلامية في عصره كانت ميّتة، اجتراريّة، في حين انسحبت المنظومات المخالفة مثل الاعتزال والفلسفة والتشيّع. بالإضافة إلى ذلك صارع الخطاب الخلدوني اختلافات ماضية لا حاضرة، متناولة عدة أمثلة في هذا السياق، ومستقصية السجلات اللغوية في خطاب ابن خلدون، لتؤكد أنه "لا يبدي رأياً بقدر ما يفرضه".
من هذه العناصر لا تبدو مقولة الحداثة قائمة في نص ابن خلدون، فالتحديث الذي تراه الوريمي كإحداث قطيعة مع الماضي بما هو معيار لتقييم الحاضر وتشكيله غائب، وهو ليس قطيعة مع الماضي في حد ذاته؛ لأن هذا غير ممكن لا نظرياً ولا تاريخياً، حيث كل مرحلة تاريخية يستمر فيها ماضيها.
في الخاتمة، تقرّ الباحثة أن للخطاب الخلدونيّ نظاماً مفهومياً مترابطاً ومتكاملاً، غير أن الإشكال كان في إقامة "البعض وبشكل اعتباطيّ علاقات تواصل موهومة؛ لأنها لا تستند إلى طبيعة المعاني ولا إلى آلية إنتاجها، بقدر ما تستند إلى ما ينتجه "استبداد الذات القارئة بنصّها المقروء".