جودت فخر الدين فريدٌ في الشعر العربي الحديث. قد نجد له مثيلاً، ولربما وجدنا فيه استطراداً لشاعرية وجدنا مثلها عند صلاح عبد الصبور. لكنّ النموذج الصبوري ليس دارجاً في الشعر العربي، ثم إنّ الشبه الصبوري لا يَختزل شعر فخر الدين. قد يكون الأمر كذلك في بداياته الشعرية، لكنّ فخر الدين، بعد ذلك، حاد عن النموذج الصبوري، قُدُماً فيه، ومن دون أن يفترق نهائياً عنه.
إنّه يواصل ما قد يبدو نقطة وسطى بين النظم والشعر، يواصل ما قد يبدو موازنة بين الغناء والنثر، بكلّ ما ينتسب إلى الأخير من التفسير والمحاكمة الفكرية والبناء المنطقي والسردي والمحور والموضوع، والترسّل والوضوح. يواصل فخر الدين ذلك لكنّه يستقل فيه وينفرد أكثر فأكثر، وإذا شئنا أن نستطلع ذلك فإنّنا نجد أنفسنا - في مجموعته "أكثر من عزلة أبعد من رحلة" (المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2021) - أمام شعرٍ يبدو أقرب إلى سيرة ذاتية، سيرة قد تنحو أحياناً إلى موضوعات خارجية مثلما نجد حين نقرأ:
"عسل
قال بائعه إنّه من برارٍ هنا في أميركا
برارٍ نجت
لا تزال على بعض أسرارها
......
عسل
قال بائعه إنّه خالص
ذقته فإذا هو كالعسل "الدوعنيّ"
الذي ذقته في بلاد الرحيق
هنالك في حضرموت التي زرتها".
أو حين نقرأ:
"لمقهى على البحر
خصّصتُ في اليوم أكثر من ساعتين...".
هنا نجد نظرة من الداخل على الخارج، لكنّ هذا ليس دأب الشاعر، دأبه أيضاً أن يُلقي نظرات من الداخل على الداخل. أي أنَّ السيرة الذاتية أقرب إلى أن تكون فكرية نفسية، وبهذا المعنى داخلية. هنا نقع على تفصيلات، على ترسيمات لمشاعر وأفكار، يسعى الشاعر إلى أن يستدخلها، وفي أثناء ذلك إلى استجلائها واستيضاحها، أي إلى التغلغل فيها وبسطها.
"لم أثق بالضفاف ولا بالغياب
ولم أستجب لعويل الرياح
تجوب البحار وتمسح وجه الفلاة
وحاذرتُ أن أتشتَّت بين البروق التي
تخلب الطرف، تعبث فتنتها بالجهات".
هذا المقطع لا يكفي بالطبع كشاهد على هذه الوسوسة اللغوية التي تُصوِّر شكوكاً كما يحمل عنوان قصيدة، أو وساوس كما يحمل عنوان قصيدة أُخرى. في هاتين القصيدتين وفي سواهما من قصائد "أكثر من عزلة أبعد من رحلة" نقع على ترسيمات لمشاعر وأفكار، تبدو فيها هذه بتداعياتها وتسلسلها وانسيابها.
"كيف لا تتذمّر أرض البشر
والبشر
لم يكونوا سوى بعض أخبارها".
هذا العمل على الفكرة هو من باب العمل على الصورة، لكن الاسترسال في الخواطر ينتج من داخله صوراً خاصّة كقول الشاعر عن الوباء بأنّه "عدو شديد الوضوح". هنا يحسن الوقوف قليلاً عند قصائد تستلهم الجائحة. هذه القصائد تنقل الشعر إلى مرتبة بين الخارج والداخل؛ ففي قصيدة "شارع في الوباء" يمكن أن نجد ما يشبه أن يكون تجسيماً للخفيّ، وترسيماً له:
"سار أنقى وأوسع
عاد له وجهه
بعدما كان محتجباً في الزحام
غدا خالياً".
...
صار منطلقاً يتنزّه
يختار بين اتجاهين
يحلو له واحد
ما يحلو له عكسه".
هكذا يستمرُّ جوّ شعر جودت فخر الدين، يستدعي الخارج إلى الداخل. يحاول أن ينتقل من "الحقيقي"، من الموضوع، ومن الفكرة، إلى الشعر والغناء، وبالعكس حين ينطلق من الغناء إلى الواقع والحقيقي. النثر هنا دائماً مقابل الشعر، الغناء والسرد يتكاملان. الشعر الذي يبدو أحياناً لمعة، ويبدو أحياناً فكرة، بل وشبه مقالة، لا يلبث أن يجد سبيلاً إلى حرارة وإيقاع حيث يستطيع السرد أن يجد نمنمته وموسيقاه.
* شاعر وروائي من لبنان