اهتمّ الأنثربولوجي الأميركي مارفن هاريس (1927 – 2001) بتأثير العوامل الديموغرافية وعوامل الإنتاج على النظام الاجتماعي الثقافي، باعتبارها مساهِمةً بشكل أساسي في تحديد الهيكل الاجتماعي للمجتمع وثقافته، وذلك في مجموعة مؤلّفات منها "أبقار، خنازير، حروب، ساحرات: ألغاز الثقافة"، و"لماذا لا يعمل شيء: أنثروبولوجيا الحياة اليومية"، وغيرهما.
صدرت عن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" النسخة العربية من كتابه "التحريم والتقديس: نشوء الثقافات والدول"، بترجمة الشاعر والكاتب السوري أحمد م. أحمد. يمثّل الكتاب محاولة لتفسير الأنواع اللامتناهية من السلوك الثقافي - التي تبدو محيّرة للوهلة الأولى - وكيفية تبنّي الثقافات لأشكالها المميزة، بالقول إنها تتكيّف مع ظروف بيئيّة معيّنة وتغيّر أنماطها.
في الفصل الأول، "الثقافة والطبيعة"، يتساءل مارفن هاريس: لماذا يقوم الناس بحلّ مشاكلهم الاقتصادية برفع وتيرة الإنتاج؟ ويرى في الفصل الثاني، "القتل في عدن"، أنه ليس في مقدور الوسائل الطبيعية لضبط نمو التعداد السكاني شرح التباين بين الكثافات المتدنيّة والخصوبة المحتمَلة للمرأة. فمعدّلات النموّ يمكنها أن ترتفع بسهولة. وقد توصّلت الجماعات التي تتمتّع بالصحّة، والتي لها مصلحة في زيادة معدّل نموها، إلى ثماني مرات من حمل المرأة الواحدة.
يمثّل الكتاب محاولة لتفسير الأنواع اللامتناهية من السلوك الثقافي
ويقول في الفصل الثالث، "أصل الزراعة"، إن تطوّر الزراعة لم يتسبّب في زيادة عدد السكّان، مشيراً إلى أن الزراعة ابتُكرت لمواجهة نقص الغذاء الناتج من قتل الثدييات المحلية الكبيرة، خصوصاً في الشرق الأوسط والصين والأميركتين.
ويحاجج هاريس في الفصل الرابع، "أصل الحرب"، أن الحرب ربما كانت أقل تواتراً وفتكاً في العصر الحجري. ففي المجتمعات القديمة، كان ثمة حاجة أقلّ إلى الصراع على الأرض، وإحساس أقلّ بالهوية المشتركة، وبالتالي احتمالية أقلّ لكره الآخر.
أما في الفصل الخامس، "البروتينات والشعب العنيف"، فيتحرّى معيشة شعب اليانومامو، الذي يقيم بين فنزويلا والبرازيل، من دون أن يدّعي أنّ هناك انخفاضاً فعلياً في حّصة البروتين لكل فرد من اليانومامو نتيجة استنزاف الموارد الحيوانية. ويرى في الفصل السادس، "أصل التفوّق الذكوري وعقدة أوديب"، أنّ ممارسة الحروب هي المسؤولة عن منظومات التفوّق الذكوري لعقدة واسعة الانتشار بين مجتمعات القرية والجماعة.
في الفصل السابع، "أصل الدول البدائية"، يقول المؤلّف إن علماء الآثار يميلون إلى الاتفاق على أنّ هناك على الأقل ثلاثة مراكز لتطور الدولة البدائية، وربما تصل إلى ثمانية. ويعود في الفصل الثامن، "دول أميركا الوسطى ما قبل كولومبوس"، إلى النظر في السياق التطوري في وادي تيوتيهواكان ووادي المكسيك خلال ألف سنة، بين عامي 200 و1200.
أما في الفصل التاسع، "مملكة آكلي لحوم البشر"، فيحاجج المؤلف بأن شعوب الأزتك كانوا يضحّون بالبشر بصفة منتظمة، "بقدر ما كان الإسبان وشعوب أوروبية أخرى يقومون أيضاً بشكل منتظم بكسر عظام البشر على المخلعة، واقتلاع الأذرع والأرجل بحبال مربوطة بين خيول، وحرق النساء المتّهمات بالسحر على الوتد".
في الفصل العاشر، "حَمَلُ الرحمة"، ثمة ما يدفع هاريس إلى الاعتقاد بأن أكل لحم البشر "لم يكن له يوماً شأن في الولائم التي يتم فيها التوزيع وسطَ الثقافات التي تسبق مباشرة صعود الدول في بلاد ما بين النهرين ومصر والهند والصين وأوروبا".
ويرجّح في الفصل الحادي عشر، "اللحم المحرّم"، أن الخنزير كان أوّل الحيوانات الداجنة التي أصبحت باهظة الثمن من مصادر اللحوم، قائلاً إننا "نعلم من العهد القديم أن الإسرائيليين أُمِروا بالامتناع عن أكل لحم الخنزير منذ فجر تاريخهم".
ويلفت هاريس في الفصل الثاني عشر، "أصل البقرة المقدسة"، إلى أن النصوص الفيدية المتأخّرة والهندوسية المبكّرة تتضمّن تناقضات كثيرة في ما يتعلق باستهلاك لحوم الأبقار، "فإلى جانب رسوم عدّة للماشية المُعَدّة للتضحية، هناك مقاطع تدلّ على أن الأبقار يجب ألا تُذبح أبداً، وأنّ أكل لحمها يجب أن يُحرَّم".
في الفصل الثالث عشر، "المصيدة المائية"، يعتقد المؤلِّف أن الزراعة المائية ما قبل الصناعة أدّت بصفة متواترة إلى نشوء سلطات بيروقراطية لإدارة الزراعة، متطرفة في استبدادها؛ لأن التوسع وتكثيف الزراعة المائية - وهي نفسها نتيجة للضغوط الإنجابية - كانت تعتمد على نحوٍ فريد على مشاريع بناء ضخمة، لم يتسنّ تنفيذها، في غياب الآلات، إلا من خلال جيش من العمّال.
ويقول في الفصل الرابع عشر، "أصل الرأسمالية"، إن عادة تفسيرات انهيار الإقطاع تبدأ بملاحظة أن التجارة والصناعة قد نمتا في القرنين العاشر والحادي عشر، "وأن البحث عن المكاسب حوّل جميع الالتزامات العرفية تجاه الإقطاع إلى علاقات سوق وعرض وطلب". لكنه يضيف، كما يوضح إيمانويل فالرشتاين، أنه "يجب عدم الاعتقاد بأن الإقطاع كنظام مناقضٌ للتجارة".
أما في الفصل الخامس عشر، "الفقاعة الصناعية"، فيورد هاريس أنّ كارل ماركس ومصلحين وراديكاليين آخرين اعترضوا على توماس مالتوس وعلماء اقتصاديين آخرين من القرن التاسع عشر ممن أصبح توجسهم معروفًا بـ"العلم الكئيب"، على قاعدة أن الفقر والبؤس اللذين غرق فيهما عمّالُ أوروبا ومزارعوها كانا نتيجة القوانين الخاصة بالاقتصاد السياسي للرأسمالية، وليس نتيجة الوجود الإنساني بعامة.