"زمن الوُحوش" لـ حميد بوزرسلان: جذورُ الربيع العربي وثمارُه المُرّة

14 يونيو 2022
حميد بوزرسلان
+ الخط -

ما تزال مُراجعات الرّبيع العربيّ جاريةً على قدمٍ وساقٍ، حتى كادت هذه المسألة أن تشكّل موضوعًا مستقلًّا وحقلًا معرفيًّا قائمًا بذاته، وعنه تصدر باستمرار دراساتٌ ومقالاتٌ تعود إلى الجذور العميقة التي كانت وراء هذا الحدث المفصليّ وارتداداته في التاريخ العربي المُعاصر، وما أسْفَر عنه إمّا من فشلٍ ذريعٍ، بعد أن تحوّل إلى حرب طاحنة، أو من نجاحٍ ولو نسبيّ، في الأقطار التي أقصت رُؤساءَها المستبدّين. في هذا الإطار، يندرج الكتاب الجديد الذي أصدره الباحث الفرنسيّ، من أصل تركيّ، حميد بوزرسلان، والذي عَنوَنه: "زَمن الوحوش: العالَم العربي، 2011 - 2021"، الصادر حديثًا عن منشورات "لاديكوفرت" في باريس.

يستعير الباحث مجاز "الوحوش" من دراسات المؤرّخ الفرنسي مارك بلوك (1886 - 1944) حول التّاريخ الأوروبي في حقبة ما بين الحربَيْن، والذي وضَع اليَد على الظّروف التي أسفرت عن ظهور زعماء متوحّشين، قادوا العالم بأسْره إلى فظاعاتٍ، لم يكن لِيَتصَوّرها أحدٌ، ذهبَ ضحيّتَها عشرات الملايين من الأبرياء. وبالاعتماد على هذا المجاز، رغم وضوحِه، يعود بوزرسلان إلى العشريّة الماضية التي مرّ بها وطنُنا العربي، والتي دشّنها محمد البوعزيزي بحرق نفسهِ تمرّدًا على النظام البوليسي، في عَهد زين العابدين بن علي (1936 - 2019)، والذي حَرَمه من لُقمة العَيش الكريمة، مع أنه حامل شهادةٍ جامعيّة عليا.

تعود فصول هذا الكتاب إلى سلسلة مقالاتٍ كتبها هذا الباحث طيلة السنوات الماضية، ضمن "الحصيلة الثانويّة لمجلّة الشرق الأوسط" بين سنتي 2012 و2021، حيث كان يُطلب منه دوريًّا تحرير تقرير عن وضع بلدٍ ما من ذلك الشرق "الرهيب"، بالإضافة إلى مَقالَيْن صدرا في مجلّة "حَركات" سنتَي 2012 و2014، وفيهما يعود إلى الأسباب العميقة التي أدّت إلى اندلاع حركات الرّبيع العربيّ، ثم إلى تحوّل بعض تداعياته إلى بيئةٍ حاضنة للإرهاب.

وصف للظروف والعوامل التي أفضت إلى خلق أنماط من "المتوحّشين"

وأمّا المحور الرئيس الذي يدور عليه هذا الكتاب، فهو وصف الظروف والعوامل الجيوسياسية التي أفضت، في تداخلها وتشابك مصالح الأطراف المتنازعة، إلى خلق أنماط عديدةٍ من "المُتوحّشين"، الذين يغيّبون العقلَ بسبب تَعطّشهم إلى السلطة، سواء أكانوا من الحُكّام الطّغاة، مثل بشار الأسد، أو من المُتشدّدين الذين لم يكن يرفّ لهم طَرفٌ وهم يُعدِمون عشرات الأبرياء باللجوء إلى العُنف المقدّس الذي غالبًا ما كان يُشرَّعُ بمقولاتٍ دينيّة، حيث تفنّن كلٌّ من هؤلاء ومن رجال دين الأنظمة المُستبدة في توظيف النصوص الدينيّة القديمة، بَعد اقتلاعِها من سياقاتها الماضية من أجل التبرير لِصراعات الحاضر والتشريع لما يُرتكب فيه من الجَرائم والانتهاكات. فَغياب العقل من صُور هذا التلاعب الوجداني، واللعب على الأوتار المُقدّسة والعاطفيّة إضفاءُ معنًى، ولو مُرعب، على هذه التحرّكات التي تقودها جماعات وأجهزة رسميّة أعماها حبّ السلطة والنفوذ.

هذا، وقد شمل التحليل سائر مناطق الربيع العربي الجغرافيّة، تلك التي ظهر فيها "الربيع" بمَوجته الأولى وتلك التي شَهدته في السنوات القليلة الماضية، كالجزائر والسودان ولبنان، إلى جانب البلدان التي أجهِضَ فيها، مع تحديدٍ دقيقٍ لكلّ مظاهره وتداعياته.

غلاف زمن الوحوش

وقد دَلّل الباحث أنّ الديمقراطية الغربيّة لعبت دورًا رئيسًا في هذا الإجهاض، بسببٍ من تَعنّتها وعدم وعيها بالتحوّلات العميقة التي طرأت على العالم العربيّ، منذ أكثر من سبعة عقود، هي عُمر الخروج من الحقبة الاستعماريّة، والتي، يضيف الكاتب، لا يمكن أن تفسّر كلّ الهزائم التي مُنِيت بها الدول الفَتيّة بعد تحرّرها من نير الاستعمار. وفي هذا تنسيبٌ للخطاب الشائع الذي يعلّل تخلّف الوطن العربي بالحَدَث الاستعماريّ، محمّلًا إيّاه المسؤولية كاملةً عن كلّ مظاهر التقهقر، وهو تعليلٌ ساذج، شديد التأثير في الخطابات الشائعة، ولكنّه يحجب القراءة الرصينة لمظاهر هذا التراجع ويَربطها بتفسير أحاديّ، غالبًا ما يفشل في فهم تَعقيدات الواقع.

وفي خُلاصة الكتاب، أورَد الباحثُ ما يُشبه الحصيلة المُتناقضة: فمن جهة أولى، وُئِدَ "الرَّبيع" بسبب المَسار الدمويّ - العسكريّ الذي اتّخذه في سورية واليمن، ولكن في ذات الآن أسفر عن حيويّة مدهشة في الفنّ والأدب والكتابة الحرّة التي ناضلت لإضفاء معنًى على عالَم صار بلا معنى. المفارقة الثانية هي تحوّل التطلّع إلى الحريّة والكرامة- الذي صاحب موجات "الربيع"، خلال عقدٍ من الزمن- إلى عُنف ملازم للدولة التي باتت تُحرّكها حوافر طائفيّة، أو أيديولوجيا جماعات متطرّفة انتهت إلى تدمير مفهوم الدولة الهشّ بطبيعته. وتكمن الوحشيّة هنا في تخلّي الدّولة عن منطقها المُجرّد، المعبِّر عن كلّية أفراد الشّعب، وتحوّلها إلى مجرّد جهاز قمعيّ، حامٍ لأقلّية طائفيّة، لُحمتها معتقداتٌ بائدة، يُعاد إحياؤُها واستحضار ما قد تَبعها من صراعاتٍ في الماضي، في ما يشبه عملية الثأر التاريخي. وفي المقابل، تُغيِّبُ الحَركات المسلّحة والإرهابيّة منطقَ الدّولة بالكليّة، وتصبح مجرّد تنظيم عاجزٍ عن استيعاب واقعه الضّيق، فضلًا عن فهم موازين القوى العالميّة ومطامع الدّول الإقليميّة الكبرى والمتناحرة، وهذا أيضًا من خَطَل الرّأي.

المزلق الأوّل الذي وقع فيه هذا البَحث، هو الخضوع إلى راهنيّة الأحداث، حيث كانت فُصول الكتاب متابعةً حينيّة لها، لا تأخذ ما يكفي من الوقت من أجل تَحليلها واتّخاذ مسافة نقديّة منها. فالأحداث تتلاحق في سرعة جنونيّة وتتّخذ مسارات ومَدارات لا يمكن التنبؤ بها، وفي الغالب ما تُفاجئ حتى الملاحظين الأكثرَ دقّةً، ولذلك بدت بعض التحليلات مُتجاوَزَةً، ليس بفعل هشاشتها النظريّة، وإنما بسبب تسارع المتغيّرات في الواقع وعدم خضوعها إلى منطقٍ واضحٍ، وقد يتحوّل التّحليل إلى وصفٍ حدثيّ سطحيّ، بمقولات معروفة، ممّا يفقده عمق النظر والتأصيل.

الديمقراطية الغربيّة لها دورٌ رئيسٌ في خنق الربيع العربي

وقد اعتمدت تحاليل الكتاب على نظريّات مُتعدّدة، أهمّها الفلسفة السياسيّة الماركسية ونظريّات أليكسي دو توكفيل ومارك بلوك وغيرهما من علماء الاجتماع والتاريخ، ممّا أضفى عليها شيئًا من العمق في متابعة المسارات التي صنعت من خلالها صُور الوحوش، أكانوا من الحكّام أو المحكومين، وأسهمت في فهم هذه اللحظات التاريخيّة التي يعيش فيها العقل أسوأ حالاته حين يُرمى به في متاهة العنف والفظاعات التي يَرتكبها "الوحوش" ضدّ منطق الدولة والحرّية والإبداع والكرامة، التي من أجلها قامت حركات "الرّبيع" الاحتجاجيّة.

إلا أنّ توظيف هذه الشبكة التأويلية على واقع مختلف جدًّا يفضي إلى ضربٍ من الإسقاط والمغالطة، ويؤدّي بدوره إلى عَدم فهم الواقع. ونعتقد أنّ المفهوم الأساس الذي استُخدم هنا- "الوحشيّة"- والذي قرئ على ضوئه الربيع العربيّ، غير مناسب؛ لأنه معياريّ، وفيه حُكم قيَميّ واضح. كما لا مَجال لمقارنة ما حصل في الحربَيْن، الأولى والثانية، بربيعنا العربيّ، لتباين السّياقات الجيوسياسية. ومع ذلك، يظلّ الكتاب مقاربة جديدة وأصيلة لظاهرة "الفظاعة" التي انزلقت فيها بعض أطراف الثورات العربيّة، وبحثًا ماتعًا في أسباب هذا الانزلاق، لتلافيه في مُستقبَل الثورات. ولعلّها قادمة.
 

* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون