صُنِع بسحرك".. العربيّة وحَساسيّة الإِصغاء إلى الجَمال
"بلسانٍ عربيّ" هكذا يحرص القائمون على "منصّة تنوين بودكاست" على أن يقدّموا أنفسَهم للمُستمعين العرب. فمنذ انطلاقتها قبل عامين، بمجموعة أفكار ورُؤى تشفّ عن اهتمامٍ واضح بالشّأن اللّغوي، وعن قبضٍ على التّفاصيل الجماليّة للّغة العربية، بعيداً عن الطّروحات العِلميّة الجافّة، دأبت "منصّة تنوين"، عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، لا على رفع الذائقة السّمعية فقط، إنّما على رفدها بصريّاً أيضاً عبر يوتيوب وإنستغرام. الأمر الذي حقّق حضوراً للمجموعة في ظلّ انتعاش صناعة البودكاست، وتعدّد الخلفيات الثقافيّة التي يجيءُ منها صُنّاعه.
لكنّ لوناً جمالياً فريداً يبدو أنّ المجموعة قد سبقتْ إلى الاعتناء به، عبر سلسلة جديدة بعنوان "صُنِعَ بسحرِك" أطلقتها ضمن البرمجة الرّمضانيّة. إذ تُركّزُ السّلسلة التي يُقدّمها مجد هِدمي، أحد قرّاء المسجد الأقصى في القدس، على موضوعة المقامات الموسيقيّة وارتباطها الوثيق - بوصفها حقلاً جماليّاً - بتلقّي اللّغة العربية وما تخلقُه من تلوّنات في حالة المُستمِع النّفسية، ما يعبّر عن سعة المَدارِكِ الرّصينة التي يمكنُ استحضارُها في مواجهة تفشّي اللغة السّطحية والمُستهلَكة في عالم التّواصل السّريع، على حساب اللّغة العالية.
قدّم هِدمي حلقتَه الأولى مبتدِئاً بمقام البَيات وكأنّه أوّل القصّة التي تحملك إلى تذكّر ما كان من وَصْل وجمال. يتمثّل البَيات، حسب هِدمي، في أساليبَ مثل العتاب والنّداء والتّأنيب وحنين المُهجّرين إلى أوطانهم، إنّه حقّاً مقام العفويّة الصّرفة. ولا تكتملُ صُورة المقام في الذّهن إلا بتطبيقه من قبل خامة صوتيّة مُتمكّنةٍ مثل هِدمي الذي فصّلَ المقام بطُرقٍ عدّة بين التّحقيق والتّرتيل، وأوضحَ ما يتفرّع منه. عليه، تضع الحلقة الأولى من "صُنع بسحرك" السلسلةَ إلى جانب سلاسل أُخرى أنتجتها المنصّة، ولاقَتْ رواجاً واسعاً مثل: "وحيُ القصيد" و"مستشرقون" و"فاصلة منقوطة".
علاوة على ذلك، طرحت "تنوين" عبر منصّات التّواصل الاجتماعي الخاصّة مسألة إشكاليّة في تراث التّرتيل والقراءة القرآنية، ألا وهي مسألة القارئات النّساء في القرنين التاسع عشر والعشرين، ومن أشهرهنّ أم كلثوم التي انتقلت من فضاء التّرتيل إلى عالم الغناء.
كذلك تطرّقت المنصة إلى فتوى 1939 في مصر، التي حرّمت على النساء التّرتيل في الإذاعة واقتصاره على المآتم. بمعنى أنّ الحديث عن المقامات لا يُحَدّ بالحديث الدّيني أو باللّغوي الجمالي على أهميتهما، بل يتعدّى ذلك للاشتباك مع المواضيع الاجتماعية الكبرى، وهذا ما يخلق تحدّيات مختلفة لبودكاست "صُنع بسحرك"، ستكشف عنها الحلقاتُ المقبلة.