"فِيَلة سوداء بأحذية بيضاء" لسلوى بكر: رواية تفكّك سنوات السادات

26 ابريل 2022
سلوى بكر
+ الخط -

تبدو رواية "فِيَلة سوداء بأحذية بيضاء" للروائية والناقدة المصرية سلوى بكر (1949)، بياناً سياسياً واجتماعياً شاملاً في إدانة التطرّف بوجوهه السلطويّة كافّة؛ السياسية والدينية، وهي في الوقت عينِه بيانٌ فنّي أيضاً، إذ تكثّف الكاتبة بضربتي ريشة، كلّ منهما تمضي في اتجاه، تكثيفاً أسلوبياً، طرائقَ السرد في روايةٍ تقول كلّ شيء بأقلّ عددٍ من الكلمات. وهذا فنّ صعب، تُطوّعه بكر، صاحبةُ التجربة الطويلة في الكتابة، في روايتها الصادرة مؤخّراً عن دار "دوِّن".

سلوى بكر من الكاتبات اللواتي يكتبن عن الآخَرِين مجتمعين، لا عن ذاتها، مادّتها هي الحياة نفسها، ذلك أنّها لا تنظرُ إلى الشخصية بمعزلٍ عمّا صنعها، وإنّما تنظر إليها وتضعها في سياقٍ أوسع؛ اقتصاديّ وعقائديّ غالباً. كما أنّها مثالٌ للكتابة النسويّة التي لا تنظر إلى الرجل بصفتهِ خصماً من طبيعة مغايرة، وإنّما تنظرُ إلى القيم التي تحكم العلاقة بين الرجل والمرأة بصورة نقديّة. لذا، قدّمت إسهاماتها في الرواية التاريخية من خلال الإضاءة على هوامش ضمن المتن التاريخي

ولربّما أشهر رواياتها في هذا الصدد "البشموري" (1998) التي تتحدّث عن العقائد المصريّة مع بداية انتشار الإسلام، و"كوكو سودان كباشي" (2004) التي تتحدّث عن فصيلة مصرية قاتلت في المكسيك. في مجموعتها القصصيّة "زينات في جنازة الرئيس" (1986) كتبت عن المرأة التي تعنيها في أدبها، وهي المرأة المكافحة، لا المرأة المُلتحِقة بفضاء الرجل. وكانت مجموعتها القصصيّة الأولى "حكاية بسيطة" قد صدرت عام (1979)، وبمرور السنوات تعدّدت أعمالُها بين الرواية والقصة والمسرح والنقد لتزيد على ثلاثين مؤلّفاً.

اهتمّت بمعاناة النساء المسحوقات بعد تجربة اعتقال سياسي

كتبت بكر روايتها "العربة الذهبيّة لا تصعد إلى السماء" (1991) بعد تجربة الاعتقال في السجن إثر مشاركتها في إضراب عمّال الحديد والصلب عام 1989، بصفتها سجينة سياسيّة بين مجموعة من السجينات لأسباب جنائية، وقد عرفت الرواية شهرةً كونها تسرد حكاية النّساء في الطبقات المسحوقة. كما سبق لها أن شاركت في "مظاهرات الطيران" في ميدان التحرير عام 1968 ضدّ قادة سلاح الطيران الذين اعتُقِد أنّهم سبب هزيمة حزيران/ يونيو 1967. وبدا أنّها تستلهم اللحظات الفارقة من حياتها في أعمالها الأدبيّة، ففي المظاهرة عينها، تلتقي بطلة روايتها الأخيرة عِفّت، مع حسام الذي تراه "الرجل في أمثل حالاته" وهو شاب يدرس الهندسة المدنيّة، وينتمي إلى منظّمة الشباب الاشتراكيّ من أجل القيام بعمل مسلّح لتحرير سيناء.

هنا، يظهر أنّ الموقف ضدَّ "إسرائيل"، هو في صميم صورة الرجل المثالي من وجهة نظر الفتاة المصرية. لكنّ بكر أخذت، منذ البداية، هيئة الرجل في حالته المثالية تلك كي ترسم انقلاب هذه الرجولة إلى أرذل الحالات. في مقابل حسام، تعرف عِفّت هذا التغيّر الجذري في حالتها، وكأنّ الرواية موجتان متقابلتان. تلتقي عِفّت بحسام أثناء سهرات أهالي حي الزيتون، وهم ينتظرون تكرار معجزة الظهور والتجلّي للسيدة العذراء، حيثُ تبدأ الرواية بمعجزة لها طابع ديني كانت بالنسبة إلى الذين شهدوا المعجزة إشارة الخلاص. وكان لحسام رأي حيال تجلّي العذراء على أنّه موضوع مفبرك من نظام عبد الناصر كي يُلهي النّاس عن خيبة الهزيمة، وهذا رأي نقديّ مقابل رأي مؤمن بالغيبِيّات، كما كان له رأي أنّ المواجهة مع "إسرائيل" تبدأ بتحقيق العدالة الاجتماعيّة.

أسهم حسام في - ولربّما صنع بمفردهِ - تغيُّر عِفّت عبر تشجيعها على التثقّف الذاتي وعبر الأفكار الثورية التي كان يخبرها عنها. وعِفّت التي كانت ترى فيهِ خلاصها من الحياة وسط القيود الاجتماعية في منزل الأسرة، وجدت نفسها مندفعةً إلى التغيير الذي يحدثه فيها، وكان للكتب التي أعطاها إيّاها فعل السحر، وهو فعل الثقافة المتحرّرة بطبيعة الحال، هكذا بدت الصورة مشرقة لحبيبين متآلفين، قبل أن تشهد الرواية حدثاً سوف يقلب الحكاية.

غلاف

يكتشف حسام يوم الزواج عدم عذريّة عِفّت، الأمر الذي يحطّم صورتها أمامه، وفي الواقع، فإنّ صورته داخل عِفّت هي التي تحطّمت من جرّاء ردة فعلهِ غير العقلانيّة. وبعد محاولات كثيرة يوافق على استشارة طبيب، وتخفتُ هذه الأزمة بينهما مع حضور أزمة ثانية، وهي معرفتهما عدم قدرة حسام على الإنجاب. إنّهما زلزالان شخصيّان يصنعان عالم الزوجين مقابل زلزالين صفعا مصر، وهما هزيمة حزيران/ يونيو، واتفاقية "كامب ديفيد".

تتّسع الفجوة بينهما بتراكم السنوات. لنرى الخلفية الاجتماعية الواسعة للمشهد، وما طاول المصريّين خلال سنوات حكم السادات، إذ بدأت "كرامات النفط" تفرضُ مفاهيمها على الأسرة المصريّة، على مبدأ "عش واستهلك"، إلى جانب شراهة الكتل الإسمنتية وهدم القصور والبيوت الجميلة. تستخدم بكر تعبيراً، "كأنّ القاهرة تُدكّ بالقنابل"، لتشير إلى حربٍ من نوعٍ آخر، خسرتها مصر، وهي خسارة أصابت الثقافة أيضاً، فتلك المدينة العريقة بدت في السبعينيّات مدينةً تحت الإنشاء. وهذا بتعبير أدقّ إعادةُ تشكيل للمدينة على أرضية مختلفة، مثّلت في الرواية تفكيك العلاقة التي بُنيَت على أساس الحبّ والحريّة وإحالتها إلى حالة نراها في المجتمع المصري لسيّدة تحاول ما استطاعت الوصول إلى الطلاق، والحصول على أدنى حقوقها. كأنّما بغياب البيوت القديمة كانت تغيب الألفة القديمة والأحلام.

تولي سلوى بكر اهتماماً بكلّ ما هو شكلي، وتراهُ دلاليّاً في النهاية. صار حسام يترك لحيته تنمو من غير تشذيب، وصار له "كرش صغير" بدأ يكبر كلّما ازداد ابتعاداً عن زملاء الجامعة وعن شعارات الرفض. كما بدأ يُضيّق على زوجته عِفّت لبسها للفساتين، وقد سايرته لسنوات، وامتنعت عن ارتداء ما قد يثير حفيظته، مع إصرارها أنّ لها صدراً لا يغوي أحداً، وفي هذا الإصرار الساخر إنّما كانت تجد الأنوثة في مكان آخر، قيميّ. 

كتبت عن فلسطين والتحوّلات التي شهدتها علاقة مصر بالقضيّة

في عهد السادات يُستَبدَل الرجل بأمثل حاله، برجلٍ آخر، وهو نموذج "الإنسان الممتاز"، بيد أنّه نموذجٌ يشبهُ عصرَه، حيثُ العنف الديني والشراهة المادية والفساد الإداري. بينما المرأة، عفّت، التي كانت ترى في الرقص أداة تعبير سياسيّ ووسيلة احتجاج يقوم بها الجسد ضدّ القيود. وجدت نفسها تعيش مع رجلٍ يفعل ما بوسعهِ كي يقيّدها، بدءاً من الأفكار إلى السلوك في اللباس والعمل، ويطلب منها أن تتوب إلى الله، وكأنّما الزمن الجديد أحضر معه مصطلحات جديدة، حتّى أنّ لغة حسام تغيّرت مع تراجع المشاعر الإنسانية، وصار بلا لباقة.

مع ذلك، بقيت فلسطين والتحوّلات التي شهدتها علاقة مصر بالقضيّة، في جوهر المسائل الوجدانية التي تعني سلوى بكر في بيانها الفنيّ الاجتماعي هذا، وقد ترافقت تغيّرات المجتمع المصري مع استعداد السادات الذهاب إلى "إسرائيل". ومع توقيع اتفاقية "كامب ديفيد"، كانت العلاقة الزوجية تقارب النهاية. بازدياد ثروة حسام المشبوهة نقص الحبّ بينه وبين عفّت، وفي هذا، فإنّ بكر تقدّم مفهوماً أخلاقياً للحبّ من جهة، ومفهوماً استهلاكيّاً للمال، وهذه مقاربة ربما تكون صحيحة، إلا أنّها مقاربة حادّة في النّص. تنتهي بتساؤل الشخصية الرئيسية أمام مظاهر الثراء الفاحش الذي ينطوي على فقرٍ فكريّ في أحد بيوت أصدقاء حسام الجدد؛ هل نحن في مصر فعلاً؟

حِدّة الكاتبة ما هي إلا إشعارٌ بفقدانها بلدها الذي كانت تعرفه وتأمل بأن يكونه. إنّه ليس فقدان الماضي، بقدر ما هو فقدان المستقبل. تنتهي الرواية باغتيال السادات وانفصال الزوجين، رمياً للزوجة خارج المنزل بما كانت ترتدي، أو العودة مقابل النقاب، ما رفضته عِفّت وشبّهته سلوى بكر باتفاقية "كامب ديفيد" جديدة، وهذه المقاربة إشارة يقينيّة إلى التكاتف الجوهري بين السلطة السياسية والدينية في وجه الميثاق الذي جمع المحبّين مع كلمات بول إيلوار:
"خُلقنا لنكون أحراراً 
خُلقنا لنكون سعداء".


* روائي من سوريّة

المساهمون