في وقت يُرَوَّج فيه لكبَر الأحجام في الفن، يقترح الفنان اللبناني وليد صادق لوحاتٍ مفرطة في الصغر، في معرضه "لوحات 2020 ــ 2022" الذي أُقيم أخيراً في "غاليري صالح بركات" ببيروت. حين ندخل إلى القاعة الواسعة، نجد أنفسنا أمام لوحات صغيرة هي أقرب إلى أن تكون توقيعات. إنّها توقيعُ وليد صادق (1966)، الآتي من الفنّ المفهومي، والذي هو نوعٌ من براءةٍ من الفن بتاريخه وتراثه.
لا نشعر، هنا، أنّ اللوحة مكتفية بذاتها. إنّها، من مكانها، تُنادي اللوحات الأخرى. بل نحن نشعر أنّها، من حيث هي، تؤلّف مع اللوحات الأخرى وتتكامل معها. يمكننا عندئذ أن نفهم لماذا كان معرض وليد صادق غريباً عن المعارض، بل غريباً عن معتادِ المعرضِ التشكيلي، كما أنّ اللوحة نفسها غريبة عن معتادِ اللوحة. إذ لا نزال نشعر، ونحن نتأمّل فيها، أنّها شيء في لوحة أكبر هي المعرض بكامله.
لا أعرف إذا كانت تسمية "لوحة" تصلح لمفردات معرض وليد صادق. بل إنّني هنا وجدت الكلمة: إنّها "مفردة". الكلمة، كما نعلم، واردة من حقل آخر، حقل اللغة. معرض وليد صادق ليس بعيداً عن ذلك. ينبغي هنا أن نبحث عن مساعد آخر، عن مدخل آخر لتناول اللوحة، وربما تناول المعرض ككلّ. اللغة قد تكون حاضرة لتلعب ذلك، لتكون وراء اللوحة وأمامها. لكنّ لوحة وليد صادق لا تستطيع أن تستكمل هذه البراءة من الفن إلّا بتلك الإحالة إلى حقل أوسع وأكثر اختلافاً. اللوحة تبدو هكذا تفصيلاً في عمل أكبر، قد يكون المعرض بكامله، أو قد يكون وراء المعرض بكامله.
لوحات صغيرة تبدو نثرات وشذرات في نصّ تؤلّفه في ما بينها
حين تكون اللوحة مفردة، فإنّ هذا يدعوها إلى أن تكون مقابلَ شيء آخر، قد يكون اسماً وعنواناً وكلمة، وقد يكون مجرّد رابط أو صِلة فحسب. لكننا لا نستطيع أن نقف أمامها ونتأمّلها بدون الشعور بأنها غير كاملة، وأنّها موجودة في مدى أكبر، وأن المعرض نفسه قد يكون مساراً، وقد يكون هذا المدى. ذلك يدعونا إلى أنْ لا ننسب للوحة وحدةً واكتمالاً من أي نوع. هذا يعني أن تركيب اللوحة وخطوطها وألوانها مطروحة للحظةٍ فقط، وأنها تحيل بالضرورة إلى لوحات أخرى.
اللوحة بهذا المعنى ناقصة، ولا تشكّل وحدها عملاً ختامياً، ولا مبنىً كاملاً. يمكن عند ذلك أن نحسّ بأن أمراً ما وراء مجموعة اللوحات ومساراً متتابعاً ومتتالياً لها. إنها، مع بعضها بعضاً، تنتمي إلى ما يمكن أن يبدو، في نهايته، عالماً؛ إلى ما يمكن أن نرصفه لوحةً لوحة، أي جزءاً فجزءاً، وتفصيلاً فتفصيلاً، في سياق مشترَك، كأنه هكذا يغدو فِعلاً عملاً، وينسج من مجموعهٍ أثراً.
لذلك، إذا عدنا إلى المفردات، نجد أن المعرض بكامله يغدو، بذلك، مساراً واحداً، يغدو عالماً، وبكلمة أخرى أدقّ: يغدو نصّاً. المعرض هكذا بلوحاته الصغيرة التي تغدو نثرات، وشذرات وأجزاءً، هو النصّ الذي يتكوّن من كل ذلك، أو يتكوّن من وراء ذلك، ويغدو لوحةً لوحة في هذا السياق الذي يحوي عالماً. إنه هكذا يملك لغةً يغدو بها أيضاً وراء الفن، ويغدو بها في براءةٍ ما من الفن، وتأليفاً من خارجه، وإنْ يكن إلى جانبه أو بعده أو خلفه.
ننظر إلى لوحة وليد صادق (لنسمّها الآن لوحة)، لنرى أن الفن يتخفّف هنا من أن يكون كاملاً، أو تحفةً، بعبارة أخرى. إننا نجد، هكذا، تكويناً يشبه الارتجال، تكويناً غير تامّ ولا يزال يتطلّع إلى الاكتمال. ربما في النصّ بكامله سنجد ملوّنةً، لكنّ ما فيها يشي بأنها هي الأُخرى غير أكيدة. اللون هنا يبدو وكأنه يتخفّف من نفسه، إنه يبدو لا لوناً، أو هو ــ وهذا يذكّر بمالفيتش ــ يتوق إلى أن يكون غير ملوَّن. تطمح اللوحات إلى ذلك: لا التركيب يكتفي بنفسه ولا اللون أكيدٌ. لنقلْ إن ما وراء اللوحة هو الأصل. ما وراء اللوحة هو النصّ.
* شاعر وروائي من لبنان