أخيراً وصلنا الكراهية

04 ابريل 2022
محسن وزيري مقدّم / إيران
+ الخط -

يسوء الإنسان أن يُضطَر إلى مغادرة بلده، وأن يُنفَى قسراً من أرضهِ، كما يسوء الكاتب على نحو خاص أن يجد نفسه خارج لغتهِ. بالتأكيد، القَسر هو ما يقلب ما ينبغي له أن يكون تجربة مرجوّةً ومثالية في حياة أي إنسان مثل السفر والتنقّل ومعرفة الثقافات، وما إلى ذلك؛ إلى مسألة يشوبها العجز، إذ إنّ قَسر الكاتب على الخروج من بلدهِ، أمرٌ يشبهُ القتل. وليس مضموناً أن ينجو الكتّاب من حُمّى الإبعاد، كما ليس ممكناً توقّع ردة فعلهم إزاءَ النفي التي قد تخرج عن السخط على الأنظمة التي يقارعونها، إلى الأوطان التي أنجبتهم من غير أن تُشعرهم بالمساندة. والسنوات الدامية السابقة شهدت التباساتٍ شتّى بات فيها مطلوباً ممّن بقي في وطنهِ، أن يقدّم للآخرين أسباب بقائه.

من العسير والشائك الحديث عن اللحظة الراهنة، إلا أنّ مقاربة دستويفسكي لمسألة النفي قد تسعفنا. مع الإشارة إلى أنّ دستويفسكي يُقاربها من زاوية محدّدة تعنيه، باعتباره واحدًا من النخبة. وكان قد اضطر إلى الخروج من روسيا كي يتجنّب الحبس، هرباً من الدائنين، وعاش في أوروبا لأربع سنوات وكان حريصاً على اللقاء مع المهاجرين الروس إلا أنّه للمفارقة، لم يكن يعتبرهم روساً، بل على العكس، بدأ يمقتهم، ذلك لأنّه انتبه إلى أنّهم يكرهون بعضهم. كما أنّ له رأياً محافظاً اعتبر فيهِ ن ألا شيء أفظع من أن يعيش المرء خارج بيئته. كان دستويفسكي في الخارج يشعر بأنّه يحتضر بسبب فقده مادة الكتابة، كما اعتبر عيش الناس في اغتراب ووحدة مطلقتين في الخارج يمكن أن يصل بهم إلى أن يكرهوا بعضهم. وهذه خلاصةٌ على الرغم من فداحتها، إلا أنّ منفيين عن أوطانهم قد اختبروها في العقد الفائت. وربما ينطوي استنتاج دستويفسكي على تجنٍ من نوعٍ ما، إلا أنّ إسفين النفي أو التهجير والقسر لا يتركُ للمرء دريئة يحتمي بها من صراعات النفس وأوجاعها التي يشكّل دستويفسكي أحد أعلامها على مرّ الإنسانيّة.

كيف يأمن الإنسان قراءة من داخلته الكراهية ضدَّ نفسه؟

ليست مسوّغات الكراهية، كما يراها من يعيش بمفردات الآخرين، حكراً على انقطاع التواصل، كما في تجربة العيش في المنفى، خارج اللغة التي يتواصل من خلالها المرء مع ما صنع وجدانه العميق وفطرته الأولى إزاء الوجود، أيضاً قد يكون العيش تحت أغلال الاستبداد والقمع من مسوّغات الكراهية. ذلك لأنّ الإنسان الذي ينوء تحت القمع يجد نفسه، وبصورة قهرية، مضطراً إلى قطع صلاتهِ مع السائد الخَرب والخاضع إلى سياسات الترويض والإقصاء. إذاً، يسوء الإنسان أن يعيش في بلدهِ أيضاً في ظلّ القمع، متغرّباً عمّا يحيط بهِ في الفضاء المسموم والملوّث. ومتغرّبًا بالتالي، عمّا يمثل قيم الإنسان العليا كالعدل والتعايش وتكافؤ الفرص، وما إلى ذلك. على هذا النحو سواء كان الإنسان في المنفى أو بين أهلهِ، قد يجد نفسه مضطراً إلى ابتكار فضاء ينمّي وجدانه، ويعمّق صلاته بالإنسانية كي يثري، بدوره، محيطه الاجتماعي عوضاً عن الكيدِ به. لا سيما إن كان عاملاً في حقل اللغة التي هي قوام التواصل، وبالنسبة إلى السرد فإنّها حامل المعرفة. فكيف يأمن الإنسان قراءةَ من داخلته الكراهية ضدَّ نفسه؟

هذا سؤال تعزّ الإجابة عنه. لكنّ ابن خلدون رأى الكراهية من أسباب الحروب، ورأى أنّ أخلاق الأمم الخاضعة للبطش، تَفْسُد. ولا شك، ليس أبلغ من الكراهية إشارةً إلى فساد الأخلاق. على ضوء ذلك، يتحصّن الإنسان بما ينجيه من الكراهية، ويعيش الكاتب ما استطاع في بيئات يَسيرٌ عليه فيها أن يجد مشتركاً إنسانيًا ولغويًا مع الآخرين.


* كاتب من سورية

 

آداب وفنون
التحديثات الحية