أكفاننا ووحشيّتهم

06 نوفمبر 2024
تكريم بمدينة هيلفرسوم الهولندية أول أمس لأرواح الصحافيين الذين قتلهم الاحتلال (Getty)
+ الخط -

منظرُ الأكفان البيضاء المُلقاة على الأرض في غزّة ينتمي لكوكبٍ آخر غير الأرض. حياة تُفْنَى وتُسجَّى ويُصَلّى عليها، إن تمَّ ذلك، أحياءٌ ينتظرون مصيرهم في معركة البقاء الأكبر في تاريخ الشعب الفلسطيني. تلك من صور الرأسمالية المتوحّشة، والاستعمار النذل والوجود النّكِد للصهيونية وعُتاتها: بلينكن، ونتنياهو، وبايدن، وكيربي، وغريفيث، وبن غفير، وسموتريتش، وأسماء أُخرى من قادة القرف العالمي.

في كتابهِ "طُرق الرؤية" يُشير جون برغر إلى تطوّر فنّ الرسم والتصوير في التراث الغربي. وهذا التطور أو السيرورة مرّت برؤية الإنسان من الداخل، فهناك تتبعُ للنفسية التي عادة ما تضفي على الوجه والعينين والطلّة سمات معينة، وتقوم برسمه أو تصويره، بحيثُ يقتربُ الفن من دواخل الإنسان كوجود وكينونة وككتلة تفكير وعواطف في لحظة تاريخية ما. ثمَّ انتقلَ التصوير والفنّ إلى مواطن الجاذبية، والأشكال الخارجية، وهذه لعبة الرأسمالية: تُركّزُ على ما يجذب، على الوجوه التي تبرق، وخصوصاً من النساء وأجسادهنّ، فيزداد الشغف بالاقتناء وتحويش الأشياء، والمبالغة بالشراء. وما يُشترى بالأساس هو صورة لامعة، لا علاقة لها بمحتوى نفسي كامنٍ في الإنسان وبما يريد. ولا يعرفُ الإنسان إن كانَ غنيّاً أو لا من كثرة الأشياء التي لا يكفي ماله لشرائها.

الرأسمالية غابة إلهاءٍ عمّا يهمّ، إلهاءٌ عن القيم، وعن مُساءلة مُديري التوحّش، أمثال مدير "تيسلا" إيلون ماسك. والأخير مثالٌ لا بأس به على سيطرة الغريزة والرغائبية على الثقافة الغربية، فرغم ذكائه في مجال التكنولوجيا فإنه يُهرول ويُنفق كثيراً من المال لانتخاب شخص تافة فجّ، وسليط اللسان لا علاقة له بأي إمكانية لإنسانية سويّة مثل دونالد ترامب، ويدعم "إسرائيل" في حربها البربرية، في الوقت الأكثر تقدّماً في مجال التكنولوجيا الحديثة. وكذلك صورة المغنّية تيلير سويفت، وهي تستعرضُ بضاعتها أمام جماهير غفيرة تدفعُ الآلاف ليروا نجمتهم التي لا يبدو من لغتها وطلَّتها أنها تقتربُ حتى من حدّود الذكاء اللافت.

غربٌ تحكمه مجموعة سلطويّين يتنافسون على عرش الشعبويّة

صورُ الغرب اليوم هي صور لأناس تافهين يتربّعون على عرشِ الثقافة الشعبويّة، وقد بدأ بعض العرب بتقليدهم. وهناك الكثيرون من المتنفّذين الغربيّين ممّن تنقصهم حكمة المُتدبّر للأمور ورحمة الإنسان السوي. إنهم خليط غريب عجيب من التفاهة والانحطاط و"السلبطة". سياسيون أمثال بوريس جونسون، والمستشار الألماني أولاف شولتس، ووزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، التي تبرّر أقسى صور المجزرة الإسرائيلية بعبارات وخطابات لو كان للغة لسان لانفجرت بوجهها من فجاجته وقسوته.

ولولا التراث العميق في بعض دول الغرب من التنظيم والرتابة البيروقراطية المهمّة التي تحافظ عليه بعض الشيء مؤسسات مدنيّة تحتلّ الصف الثاني أو الثالث من المنظومة الغربية مثل الجامعات والنقابات العماليّة والخيرية وغيرها، لقُلنا العوض على هذه الدول والحضارة المُحبطة في هذه الأوقات المهولة.

وفي المقابل هناك صُورنا، صُور أهلنا وقد حلّت بهم نازلة النوازل على يد الصهيونية، من "إسرائيل" إلى أميركا إلى ألمانيا إلى بعضِ مستنقعات التخلّف العربي، صورٌ يحارُ الحليم بوصفها ومجاراتها.

أكفاننا وأجسادنا وأرواحنا ملفوفة بقطعِ قماش بالية، إن وجدتْ، مسجّاة، جثث هامدة على الأرض. وهناك بقعُ دمٍ لمن كان حيّاً يُرزَق للتوّ يتضوّر جوعاً ويبحث عن مخرجٍ من جحيم "إسرائيل". صُور لأناس مختلفين: كبار وأطفال ونساء وشبّان، وأكفان كأنّها سماوات أُخرى.

أكفاننا ونحن نفنى على شاشات العالمين، وننظرُ لآخرِ صاروخ من "إسرائيل" وهو يهوي على بناية في لبنان والناس يتفرّجون على قطار الفاجعة السريع، وفي غزّة يفرّون من أنفسهم التي لا تكاد تصدّق أنّها في غابة بشرية وحشيّة إلى هذا الحدّ.

صورة الأكفان هي من أشدّ تجلّيات الرأسماليّة والاستعمار توحّشاً، هي إنساننا الفلسطيني العربي الصابر المحتسب المغلوب على أمرِه، الذي لا حيلة له سوى لغته القديمة، و"الياسين 105"، و"عبوة شواظّ"، إن وجدت، وأبيات من الشعر المقفّى، وآيات من الذِّكْر الحكيم، وذاكرة مفعمة بالحنين، بينما قادة الخراب في "إسرائيل" يخطّطون للضربة التالية، ومن سيسكُن الأكفان بعد آخر غزوة قتلٍ وتدمير.

التناقض لا يدعُ مجالاً للشكِّ أنّنا أمام عالمٍ حتى التنظير بحقّه يُفجع، فمن أين نبدأ وأين ننتهي، وما الفائدة من كلِّ هذا؟

"إسرائيل" تريدُ ذلك، تريدُ تحطيم اللغة كمنظومة تواصل، وبثّ الرعب المُطلق من خلال صور خراب قيامي بحيثُ لا يجرؤ أحد على مقاومة وحشيّتها وإيغالها بالدم العربي، تريدُ أن تكونَ صورة "بُعبع" لا يجرؤ أحدٌ على مسِّه مهما توحّش. 

صورُ الأكفان وحدها، وأهلنا الضحايا الأموات والأحياء الشهود في غزّة ولبنان وسورية واليمن هي الدرسُ الأول والأخير في الحضارة الغربية المُتوحِّشة التي مهما زاد بريقها تبقى صورها الأقسى: الأكفان والأجساد الملفوفة بأقمشة بالية في بلاد المعذّبين في الأرض.  

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

موقف
التحديثات الحية
المساهمون