في هذه الأيام التي تحلّ فيها مئوية الجمهورية التركية لا تزال الكمالية ترتبط في الأذهان عند العرب والمسلمين بـ"تغريب" تركيا عن إرثها الشرقي/ العثماني مع التحوّل بكتابة اللغة التركية من الحروف العربية إلى اللاتينية وإلغاء لبس الطربوش واعتماد القبعة الغربية عوضاً عنه والتحوّل من الموسيقى التركية الكلاسيكية (باعتبارها شرقية متأثرة بالعربية والفارسية) إلى الموسيقى التركية المنفتحة على الغرب إلخ، ما جعل الجيل الجديد منقطعاً عن التراث العثماني الممتد عدة قرون، والتوجّه لعلمنة الجمهورية التركية بعد إلغاء السلطنة في 1922 ثم الخلافة في 1924 لتكون تركيا الحديثة جمهورية تجمع بين الطابع القومي (التركي) والطابع العلماني (المتطرف على النمط الفرنسي)، وهو ما رسّخ العلمانية في المشرق العربي بمفهوم سلبي.
ولكن لدينا في الحقيقة نموذج سابق لتركيا الكمالية في اختيار مفهوم آخر للعلمانية المرنة أو الأنغلوساكسونية (كما هي في بريطانيا والولايات المتحدة) برز في ألبانيا بعد استقلالها عن الدولة العثمانية في 1912 لتصبح بدستورها في 1914 أول دولة علمانية بغالبية مسلمة، وهو ما تكرّس في آذار/ مارس 1923 مع تأسيس "الجماعة المسلمة الألبانية" التي أعلنت استقلالها عن مشيخة الإسلام في إسطنبول وأصبحت تمثل الغالبية المسلمة أمام الدولة أو في العالم الإسلامي.
أول دستور علماني
خلال الحرب البلقانية التي شنّتها دول البلقان على الدولة العثمانية في تشرين الأول/ أكتوبر 1912 اجتمعت نخبة ألبانية في مدينة فلورا Vlora وأعلنت استقلال ألبانيا عن الدولة العثمانية في 28/11/1912. وبسبب خلافات الدول الأوروبية الكبرى (النمسا-المجر وروسيا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا) حول الوضع الجديد على الأرض اجتمع مؤتمر لندن لتفادي حرب بين هذه الدول وقرّر في اليوم الأول (17/12/1912) "إنشاء ألبانيا ذات حكم ذاتي تحت سيادة أو تابعية السلطان" على أن تكون "تحت ضمانةٍ ورقابةٍ حصرية للقوى الأوروبية الست الكبرى"، بينما عاد بعد انتهاء الحرب البلقانية ليقرّر أخيرا في 29/7/1913 الاعتراف بـ"إمارة ألبانية مستقلة عن الدولة العثمانية".
لم تصمد الصورة المثالية للعلاقة بين الدين والدولة
ولكن الحكومة الألبانية المؤقتة برئاسة إسماعيل كمال التي تشكلت بعد إعلان الاستقلال في 28/11/1912 لم تنتظر افتتاح مؤتمر لندن وقراراته بل تصرفت بسرعة لفكّ الارتباط السياسي والروحي بالسلطنة/ الخلافة العثمانية. وهكذا كان من بين الموقّعين على إعلان الاستقلال الشيخ وهبي ديبرت V.Dibra، الذي عُيّن أولا رئيسا لمجلس الشيوخ ثم عيّنه رئيس الحكومة في صيف 1913 مفتياً عاماً لألبانيا، وهو منصب جديد لم يكن موجوداً لأن تعيين مفتي أي ناحية من ألبانيا كان يتم بقرار من مشيخة الإسلام في إسطنبول، وقد بقي فيه حتى وفاته في 1937. وفي هذا السياق اتخذت الحكومة الألبانية المؤقتة (التي لم تكن تحظى بعد باعتراف دولي) قراراً في 5/5/1913 بدمج القضايا المدنية مع القضايا الجنائية لتنظر فيها معا المحاكم العادية، في حين أن المفتين في المحافظات بقوا ينظرون في الشؤون الدينية فقط.
ومن ناحية أخرى تولت "لجنة الرقابة الدولية"، التي شكّلتها الدول الأوروبية المنتدبة على ألبانيا، مهمة وضع أول دستور رسمي للدولة الأولى بغالبية مسلمة في أوروبا بعدما تقررت حدود هذه الدولة في 1913. ومع أن مشروع الدستور في ربيع 1914 قرّر في الفصل الأول أن "الدين منفصل عن الدولة، والدولة ليس لها دين رسمي"، إلا أن أعضاء اللجنة أصروا على استمرار الامتيازات الأجنبية التي كانت مطبّقة في الدولة العثمانية. ولكن العضو الألباني في اللجنة مهدي فراشري، الذي عرف بخبرته السياسية والقانونية وتولى أعلى المناصب التي كان آخرها متصرف القدس في 1912، طالب بشطب الامتيازات الأجنبية لأن ألبانيا "ستحرص على أن تعتمد على قوانين تنسجم تماماً مع مبادئ الحضارة الغربية الحديثة" بينما يؤدي استمرار الامتيازات الأجنبية إلى "خلق دويلات ضمن الدولة ويخلق عراقيل في وجه التقدم". ومع هذا الدفاع البليغ شُطبت المادة عن الامتيازات الأجنبية وبقيت المادة التي تنصّ على أن "الدين منفصل عن الدولة، والدولة ليس لها دين رسمي"، وهي التي بقيت في كل الدساتير الألبانية اللاحقة حتى الآن.
مع التحوّل الديمقراطي زادت الاختراقات من الشرق والغرب
ولكن بعد شهور اندلعت الحرب العالمية الأولى وغزت ألبانيا الجيوش المختلفة (المونتنغرية والصربية والنمساوية واليونانية والإيطالية) وعادت بمعجزة كيانية ألبانيا بحدود 1913 في مؤتمر السلام في باريس وأصبحت أول دولة أوروبية بغالبية مسلمة تنضم إلى عصبة الأمم في 1920.
ارتبط هذا البروز الجديد لألبانيا بشخصية صاعدة بقوة ذات ميول علمانية ألا وهو أحمد زوغو A.Zogu، الذي أصبح وزير للداخلية في 1920 في "حكومة الإنقاذ" ورئيسا للحكومة في 1922 ورئيسا للجمهورية في 1925 وملكا لألبانيا في 1928 حتى الاحتلال الإيطالي في نيسان/ إبريل 1939. كان زوغو يرى أن العلمانية بالنسبة لألبانيا المتعددة دينيا (70% مسلمون و20% روم أرثوذكس و10% كاثوليك) ضرورة للتعايش القومي وتحييد تدخل الدول المجاورة في ألبانيا من خلال الجماعات الدينية (السلطنة العثمانية واليونان وإيطاليا)، ولذلك كان مع "ألْبَنَة" هذه الجماعات بشكل يوضّح ارتباطها بألبانيا وليس بأي دولة أجنبية، ومن ذلك دعم تأسيس الكنيسة الألبانية الأرثوذكسية التي أصبحت مستقلة عن الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في 1922.
وفي هذا السياق كانت "حكومة الإنقاذ" في 1920 قد قررت اعتماد اللغة الألبانية بالحروف اللاتينية بشكل رسمي بعدما نوقش هذا الأمر في عدة مؤتمرات خلال 1908-1912، وبعدما كُتب إعلان الاستقلال باللغتين الألبانية بالحروف اللاتينية والعثمانية، وهو ما حرص المفتي العام خلال 1921-1922 على تطبيقه بتوجيه المفتين على أن تكون الأدعية في خطبة الجمعة بالألبانية وعدم الدعاء للسلطان العثماني في نهاية الخطبة لأنه لم يعد يحكم ألبانيا، وعدم استخدام اللغة العثمانية في المراسلات.
وقد تتوّج خلال 1913-1923 هذا المسار للانفصال السياسي والروحي عن السلطنة - الخلافة العثمانية بأول مؤتمر عام للمسلمين عُقد في تيرانا بين 24/2 و12/3 من عام 1923 انتهى بتشكيل "الجماعة المسلمة الألبانية" التي أصبحت تمثّل المسلمين أمام الدولة، وتحتفلُ هذه السنة بذكرى مرور مئة سنة على تأسيسها. أما المهم في هذه المرة فقد كان التأكيد على الاستقلال الروحي/ المؤسّسي للألبان عن مشيخة الإسلام في إسطنبول وعلى "ألْبَنَة" هذه المؤسسة الجديدة كما يبدو في القانون الأساسي لها. فحسب هذا القانون أصبح يتعيّن على رأس المؤسسة - الذي يشغل أيضا منصب رئيس "المجلس الشرعي الأعلى" - أن يحمل الجنسية الألبانية وأن يكون ألبانياً أو من أصل ألباني وأن يكون حاصلا على إجازة شرعية أو خريج معهد نواب القضاء إلخ.
ومن المهم هنا أن المفتي العام وهبي ديبرا الذي افتتح المؤتمر، وأعيد انتخابه في هذا المنصب بأعلى الأصوات حتى وفاته عام 1937، طرح في كلمته الافتتاحية ما أصبح يميّز "الإسلام الألباني" خلال العقود التالية : الأخذ بعين الاعتبار أن الألبان يعيشون في قلب أوروبا، وأن "باب الاجتهاد لم يغلق ونحن مستعدون للنظر في مسائل دينية لأنه مع تغيّر الأزمان تتغير الأحكام"، ولذلك أصبح عام 1923 يؤشر له باعتباره عام "استقلال الإسلام الألباني" (أو "الجامع الألباني" في التعبير المحلي) بالمعنى المؤسسي عن الإرث العثماني، حيث أصبحت المؤسسة الجديدة المنتخبة تمثل المسلمين دستورياً أمام الدولة وترعى شؤونهم الروحية والثقافية وتنسجم مع الدستور العلماني للدولة الذي يعطي الجماعات الدينية حرية كاملة بشرط ألا تحمل أجندات عابرة للحدود الألبانية من الدول المجاورة تتناقض مع المصالح القومية للدولة.
كان هذا المؤتمر في حينه حدثا تناولته الصحافة في العالم من "نيويورك تايمز" إلى "الأهرام" لما يحمل من دلالات. وكان من الطبيعي أن تعارض مثل هذا التوجّه بعض الشخصيات الدينية المحافظة وأن تعبّر عن معارضتها بالهجرة من ألبانيا التي لم تعد "دار إسلام" برأيها، ومن أولئك الشيخ نوح نجاتي الذي هاجر في 1924 مع ابنه ناصر الدين إلى دمشق، حيث برز فيها ناصر الدين الألباني باعتباره "مؤسس السلفية الألبانية" في العالم العربي الإسلامي.
إلا أن هذه الصورة المثالية عن العلاقة بين الدين والدولة لم تستمر طويلاً، حيث اهتزت خلال الاحتلال الإيطالي لألبانيا في 1939 الذي رحبت به الأقلية الكاثوليكية ثم جاء الحكم الشيوعي في نهاية 1944 ليترك ألبانيا في أسوأ حال في 1991، ومع التحوّل الديمقراطي زادت الاختراقات من الشرق والغرب ولكن الدستور بقي ينصّ كما في 1914 على أن الدين منفصل عن الدولة.
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري