إلياس خوري.. ازدواج الأدب والسياسة

22 سبتمبر 2024
إلياس خوري.. كان الكاتبَ أوّلاً، والكاتب كلّ لحظة، والكاتب إلى الأخير
+ الخط -

كان رحيل إلياس خوري مباغتاً رغم معرفة الجميع بأنّه يغالب المرض منذ عام ونصف. ليس رحيلُه مباغتاً بقدر ما كان مدوّياً. لا بدّ أنّ حدثاً كهذا سيُلعلع في بلدٍ رغم أنّ أزماته المتلاحقة، الاقتصادية والسياسية، لا تترك له فسحةً لوقفة هادئة. الثقافة في وضعٍ كهذا تتراجع إلى هامش جانبي.

رحيل شخصٍ تنعقد عنده الثقافة والسياسة وله كلمة مسموعة في المجالَين، لقد استمرّ في مطالعاته السياسية على فيسبوك قبَيل رحيله بأسبوع، لذا فإنّ ما أثاره رحيلُه ليس بعيداً عن السياسة. مع ذلك، فإنّ الموقع السياسي له يتلقّى دعماً من قيمته الأدبية، إذ لا ننسى أنّ الروائي الذي كانه ليس باهتاً، إنّه بالعكس لامعٌ ولافت وذو حضور حقيقي. إذ إنّ الرجُل، الذي لم يفرّق في أيّ مرحلة بين السياسة والأدب، لم يكن بأي حال مبشّراً سياسياً ولا داعياً. كان بالعكس يعرف جيّداً كيف يتناول السياسة كواقع يحتاج إلى صياغة وإعادة خلق واستحضار لا يعفّ عن التفاوتات والتناقضات، بل يتعمّد استخراجها والبناء منها وعليها، في عملٍ غرضه الأوّل هو الرواية. لذا لن نجد في 18 روايةً التي تركها أيّ مديح أو حماسة أو دعاوى من أيّ نوع. الرواية في عمل إلياس خوري تُتابع مبدأها الأساسي؛ ملاحقة الانهيار والتهافت الواقعيَّين، في قراءة لا يمنع أن تكون سوداء وسفلية ومتضاربة، وبالتالي معمّقة وفاضحة ونقدية.

مع ذلك، فإنّ هذا الاستحضار السياسي، أو البناء على الموضوع السياسي، كانا ميزةَ الروائي الذي بلغ في سياسويته الأدبية كشوفاً ومباشرة، لا يمنعان من أن يعكفا على التفصيل والموضوعات القريبة بمادّتها وتكوينها ومسارها. يمكننا، مع ذلك، القول إنّ جيل إلياس خوري لم يكن، في معظمه، بعيداً عن المرجع السياسي، بل يسعنا في مراجعة هذا الجيل أن نجزم بأنّه بنى في الأساس على المرحلة، وبالتالي على مضاعفاتها السياسية والثقافية، بل يسعنا أن نثابر على هذا التقييم ونستطرد فيه لدرجة الزعم أنّ الرواية اللبنانية لهذا الجيل تصدر بشكل أوّلي عن الحرب الأهلية، وأنّ هذه الحرب، بوقائعها وتفاعلاتها ودعاواها وما تبعها وتلاها، في تماسٍ حميم معها، ذلك كان فاتحة الرواية اللبنانية يومها، بل يمكننا الجزم أنّ روح هذه الرواية وتخييلها ورؤاها تصدر بالدرجة الأُولى عن هذه الحرب؛ إذ إنّنا إذا سمّينا روائيّي هذا الجيل، نجد أنفسنا في المرحلة، نجدها فوراً في الحرب الأهلية وتداعياتها.

تابعت روايتُه مبدأها الأساسي: ملاحقة الانهيار والتهافت

لم يكن فريداً في ذلك، وإذا كنّا وجدنا له ميزةً، فإنّها كانت في حميميةِ صلةِ أدبه بشخصه. كان إلياس خوري نشطاً سياسياً، سواه من جيله كانوا ذوي التماعات ومواقف سياسية بالتأكيد، لكنّهم لم يكونوا سياسويّين لهذه الدرجة. لم يكونوا يقبلون بأن يقدّموا في روايتهم عروضاً سياسية. الأحرى أنّهم لم يستحسنوا أن يرجعوا إلى يوميات الشارع ونزاعاته.

إلياس خوري الذي لم يتجنّب شخصه السياسي، لم يكن بهذا البعد أو التجنّب. كانت نزاعات الحرب الأهلية موضوعاً أثيراً لديه، النزاعات والمشاكل بأسمائها ولغتها، بل بشطحاتها وآفاتها. كان أميناً لذلك لدرجة أنّه وهو، الذي كان قريباً جدّاً من "فتح" والمقاومة الفلسطينية، لم يمانع أن يكتب في رواية آفات المقاومة وأخطائها، الأمر الذي سبّب غضباً منه جعله ملاحقاً.

إنما ينبغي، فوق ذلك، أن نقول إنّه بقي فلسطينيَّ العمق، بحيث أنّ فلسطين التاريخ وفلسطين الداخل كانتا موضوع أكثر كُتبه شهرةً. لا نستغرب من أن تكون "باب الشمس" الرواية التي طغى اسمها على المراثي التي تناولته، رغم أنّني لا أجدها الأهمّ روائياً، وقد تكون عاديةً في مؤلّفه، لكن إبرازها بهذه الطريقة يُعيدنا إلى ازدواج السياسي والأدبي في شخص إلياس خوري ونصّه.

رغم ألم إلياس خوري الذي تكلّم عنه في واحدٍ من مقالاته، بقي يتابع مقاله إلى الأسبوع الذي سبق رحيله، ذلك يجعلنا نفهم أنّه الكاتب أوّلاً، والكاتب إلى الأخير، والكاتب كلّ لحظة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون