قبل نحو أربعين عاماً، وعشية الاحتلال الإسرائيلي للبنان، انتحر الشاعر خليل حاوي. كان هذا لكثيرين احتجاجاً على الاحتلال، وخاصة هؤلاء الذين يجدون في شعر حاوي أنشودةَ الانبعاث القومي. لم تكن هذه محاولة الانتحار الأُولى، ولا الوحيدة، لذا عزاها كثيرون أيضاً إلى مزاج حاوي الانتحاري. مع ذلك فإن الصلة بين الاحتلال والانتحار، تبقى دامغة، أياً كان دافع حاوي فإن موته، على هذا النحو، يبقى واحداً من عوارض الاحتلال.
بعد أربعين عاماً تصدر "دار نلسن" اللبنانية ما أخرجته بعنوان "الديوان الأخير" لخليل حاوي، والذي اجتهد فيه أشخاص حوالي الشاعر، في جمع قصائد نظمها الشاعر قبيل انتحاره، ولم يضمّها كتاب. مع القصائد القليلة أُضيفت قصيدة كان نشرها، في أوّلياته، في "مجلّة الآداب" ولم يُضفها إلى دواوينه. معها نُشر آخر قصائده بالعامية اللبنانية، وكان معروفاً أن الشاعر باشر عمله الشعري بقصائد بهذه العامية، ومع أن مقطعات قليلة منها نشرت، الا أنّ رصيد الشاعر منها يبقى مجهولاً.
من الواضح أن ما نعرفه من شعره بدأ بالفصحى، "نهر الرماد" أولى مجموعات حاوي المعروفة، وتلتها مجموعات أُخرى "الناي والريح"، و"بيادر الجوع"، و"الرعد الجريح"، و"من جحيم الكوميديا".
هذا القليل هو كلّ نتاج خليل حاوي، وإذا علمنا أن "من جحيم الكوميديا" صدر عام 1979، فإن سنوات قليلة اتّسعت لهذه القصائد الذي ضمّها "الديوان الأخير". لكن النظرة إلى المقطعات القليلة، التي حواها الديوان، تُشعر بادئ ذي بدء بأن هذه القصائد تواصل، وإن بوهن، عملاً شعرياً، لا ندري إذا كان حاوي يُواصل فيه مشروعه الشعري، الذي قام في ستّ مجموعات سبقت، أم أنه - كما قد يخطر للقرّاء - ما زال في هامشه ويستمرّ بالكتابة حوله أو العودة إليه. السؤال هو بالضبط ما مكان "الديوان الأخير" من أثر حاوي ومؤلّفه. قد يجوز أن نسأل إذا كان نشره، بعد أربعة عقود، يضيف إلى معرفتنا به، أو يلقي ضوءاً آخر على شعريته ومشروعه الشعري.
في الديوان أصداء ملحمية واسترجاع مبحوح لموسيقى غائبة
يمكن لقارئ حاوي أن ينفد إلى شعره من خلال أسطورتين، أولاهما تموز والثاني إليعازر. في الاثنتين نعثر على حركتين، الأُولى هي التردّي في موت يعني، من جهة أُخرى، السقوط والاضمحلال والانحطاط والغيبة والغفلة، لكن من الجهة المقابلة هناك الانبعاث والحياة الثانية. لم يكن حاوي الوحيد الذي قام شعره على أيديولوجيا الانبعاث القومي، فقد نشأ، حول هذه الرؤية، تيارٌ كامل دعاه النقّاد بـ"التيار التموزي".
لم يكن حاوي الوحيد في ذلك، لكنه كان من الأوائل، وكان بالتأكيد علَماً في هذا التيار. لا نشكّ أن مؤلفات كـ"نهر الرماد"، و"الناي والريح" كانت فضاء لهذه الرؤية. بيد أن الأمر لم يكن في الفكرة التموزية بقدر ما كان في قدرة مماثلة على النشيد والاحتفال. كانت قصيدة "الجسر" في "نهر الرماد" هي هذا الاحتفال، وهي ذلك التعييد والإنشاد والغناء الصاعد من جوقة.
كما هي أيضاً القدرة على معاناة الظلمة والسقوط والموت، في صعود وانتفاض وصرير أسنان، وتكالب عضوي وباطني، أي أن شاعرية خليل حاوي في هذين الديوانين خاصة، كانت في هذا الإيعاز الملحمي. هل نجد في قصائد "الديوان الأخير" استكمالاً لهذه الملحمية، أم أن المقطّعات القصيرة غالباً في الديوان، كانت استرجاعاً مبحوحاً لموسيقى غائبة. أم أننا هنا أمام هوامش العالم الحاوي، هوامش وتعقيبات. لا زلنا نجد في "الديوان الأخير" أثراً من الإيقاع الحاوي، لكنه أثر فحسب. إنه أشبه بترداد واسترجاع، بل هو أشبه بتقليد الشاعر لنفسه. في "الديوان الأخير" خلاصة لشعر حاوي واحتفاله ونشيده، لكنها خلاصة فحسب، ما يشبه أن يكون صوت حاوي لا رؤياه ولا احتفاله.
* شاعر وروائي من لبنان