استمع إلى الملخص
- الناصر يتبع أسلوباً فنياً يتحرر من قيود المدارس الفنية، معبرًا عن مشاعره ورؤيته الخاصة بلغة لونية فريدة، مما يجعل لوحاته تمتزج مع الحدث وجدانيًا وتستحوذ على انتباه المتلقي.
- المعرض ينقل أوجاع الإنسان في العالم العربي، مع التركيز على الموت الفلسطيني كامتداد لمشروع يوسف الناصر الفني الذي بدأ بمعرض "المطر الأسود"، مستخدمًا مواد "سريعة الاشتعال" للتعبير عن تفاعله مع الأحداث الدامية.
إذا كان للاشتباك المُباشر بين المقاوِم والعدوّ مسافةٌ تُقاس بصفر لا غير، حيث لا فاصل بين الحياة والموت سوى خطوة واحدة، فإنّ للرسم أيضاً مسافته الصفرية التي تشتبك مع بربرية العدوّ التي تمحو كلّ ما يواجهه من سكّان ومَعالم وتسوّيه بالأرض. نلمس ذلك في معرض الفنّان العراقي يوسف الناصر، الذي أُقيم مؤخّراً في "أتيليه دانييل لوازيل" بباريس.
"الرسم من المسافة صفر" هو عنوان المعرض. وفيه يتبع الناصر (1952)، عبر عشرين عملاً، آلية الرسم المُباشر لما يلتقطه من مشاهد إبادية، ضمن رؤية لا تنشغل بتصوير العمل الإجرامي كما هو، بل بما يعتمل الروح لحظة الحدث الدامي. إنّها لحظة مشوَّشة ومعتمة وضبابيّة، ليس من داع فيها لأن نُشاهد عمارة سكنية تحوّلت إلى أنقاض، أو شهداء تتوزّع أشلاؤهم هنا وهناك، بل إنّ مستوى الرؤية النفسية فيها يتجاوز ذلك، ليكون أشبه بالكابوس الذي قد يُفهم وقد يُفسَّر وقد يضيع، لكنّه يبقى كابوساً في كلّ الأحوال.
يجعل الاشتغال المباشِر على اللوحة من العودة إليها، بغرض الإضافة أو التعديل أو المحو، أمراً غير ممكن. إنّها ضربةُ فرشاة لا يرجع فيها الزمن، حالُها حال الفعل المقاوِم والمسافة الصفرية مع العدوّ؛ إذ لا رجعة لحظة الاشتباك، فإمّا هدفٌ محقَّق أو موت محتوم.
يرسم الفنّان العراقي لوحاته بحُرّية، متخفّفاً من أيّة قيودٍ أو قوانين تفرضها المدارس الفنّية، فيأتي عملُه وليدَ لحظةِ الرسم نفسها. إنّه يقول ما يريد قوله هو، ولكن بلغته اللونية الخاصّة. ولا يبدو، في لوحاته هذه، "فنّانَ حربٍ" ينقل صوراً فوتوغرافية واقعية، بل يذهب إلى المنطقة الأبعد من ذلك: التماهي مع الحدث وجدانياً وروحياً، حتى لَيستحوذ العملُ على عين المتلقّي فلا ترى غيره.
على امتداد الخريطة العربية التي لم تُغادرها الوحشية الغربية
تنشغل أعمال يوسف الناصر بالضحايا؛ ضحايا الحروب والنزاعات، الذين يتعرّضون بشكل مستمرّ لشتّى أنواع العنف والدمار، فلا تبقى أمامهم فرصةٌ للعيش. تجلّى ذلك منذ معرضه الأوّل "المطر الأسود" (2006) الذي كان الموتُ العراقيُّ مادّتَه. وبهذا، يكون "الرسم من المسافة صفر"، الذي ينشغل بالموت الفلسطيني، امتداداً لمشروع يتلمّس أوجاع الإنسان على امتداد الخريطة العربية التي لم تُغادرها الوحشية الغربية.
في تقديمه للمعرض، يكشف الناصر عن علاقةٍ بفلسطين والفلسطينيّين لا تقف عند مستوى التضامن، بل تتّسع إلى المستوى الإنساني بما فيه من صداقة وعيش مشترك؛ إذ يقول: "لم تهدأ روحي ولا عقلي منذ أن بدأ الهجوم النازّي على غزّة إلى اليوم. تخرّبت أيامي ونبتت عشبة مُرّة في ريقي؛ لأسباب نشترك بها جميعاً، وأسباب خاصّة بي، فقد عرفتُ الفلسطينيّين عن قُرب وعملتُ وعشت بينهم لسنوات طويلة، ولي أصحاب ومعارف من غزّة. الفلسطينيّون هُم الذين حمونا وآوونا عندما هربنا من ظُلم البعثيّين في العراق".
بدأ الناصر العمل على المعرض منذ تشرين الأوّل/ أكتوبر الماضي، وأنجز لوحاته بأقلام الرصاص والأحبار الملوّنة، مستخدماً أوراقاً صغيرة. إنّها "مواد سريعة الاشتعال"، وفق تعبيره، تُتيح له التفاعل مع الحدث والتنقّل من مشهد إلى آخر بحسب ما تفرضه الحالةُ الفنّية.
* شاعر وتشكيلي من العراق