في ثامن جلسات "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية" الذي ينظّمه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" حول موضوع "الدولة العربية المعاصرة: التصور، النشأة، الأزمة"، شارك اليوم الباحثون عوض منصور، ومها السمان، ومحمد غازي الجمل، فيما أدار الجلسة أحمد قاسم حسين.
في ورقتها المشتركة مع عوض منصور بعنوان "هل الدولة هي الإطار الأمثل لمستقبل فلسطين؟ عن تطبيقات التوجه العابر-استعماري"، قسّمت الباحثة مها السمان عرضها إلى جزأين، الأوّل يتّصل بمسار الدولة الحديثة وتطوّر مفهوم القومية في أوروبا، ومسار الدولة في الوطن العربي مع توضيح إشكالياتهم، والثاني حول مفهوم عابر- الاستعمار، يليه مدخلٌ نحو نموذج عابر- استعماريّ فلسطيني.
استعرض منصور مسار الدولة الحديثة في أوروبا في القرن التاسع عشر والعالم العربي بعد الاستقلال
وأشارت إلى أنه عند التفكير بمستقبل فلسطين والمنطقة المحيطة فإنه من الأَولى أن يكون التفكير موجّهاً نحو التحرّر من الأشكال المختلفة من السيطرة، وليس تقليص هذا المسعى إلى مسمّيات وحلول سياسية يمكن أن تُنتج بعض أنواع سيطرة وتحكّم جديدة، وذلك فإنّ حصر هذه المطامح في إطار دولة من دون تحديد ماهية هذه الدولة قد يُدخل المسار التحرّري في إشكاليّات عدّة، ومنها إشكاليّات كامنة في ماهيّة الدولة المنبثقة من السياق الأوروبي، والسياق العربي.
من جهته، استعرض منصور مسار الدولة الحديثة في أوروبا في القرن التاسع عشر حيث تبلور مفهوم القومية بعد الثورة الفرنسية سنة 1789، التي جعلت السياسة والسيادة شأناً للشعب لتشكيل وجدانه وهويّته في إطار عقد اجتماعي ونظام سياسي ثوريّ جديد، يوجّه الطاقات البشرية نحو أهداف إنسانية سامية قائمة على الحرية والإخاء والمساواة، كما جاء في إعلان حقوق الإنسان. وكان الردّ من النظم الملكية الإقليمية على هذا النظام الثوري أن تحالفت للقضاء عليه، خوفاً من انتشاره. حيث استغلّ نابليون هذا التعاطف من الشعوب المحيطة ليتوسّع في القارة الأوروبية ويعيّن نفسه إمبراطوراً، ما أدّى إلى تراجع التأييد له، وفي أثناء نفيه، قامت الأنظمة الملكية باستعارة النموذج الفرنسي مفرّغاً من محتواه الثوري.
وحول الواقع العربي، أوضح عوض أنه على إثر تدخّل الاستعمار في تشكيل الدول، تحوّل مشروع بناء المواطن العربي إلى بناء الولاء للنظام من خلال الوطنيّة والتجنيس، وتعزز هذا المسار الاستعماري من خلال إنشاء مركزيّة الولاء للنظام بدلاً من الولاء للدولة. ولفتَ إلى أنه بالرغم من تجربة الوطن العربي في بناء الدولة ومفهوم المواطنة مواطنة كانت قصيرة، إلّا أنّ هناك استمراريّة في وجود تحوّلات جيوسياسية عميقة ومتقلّبة، سواء على الصعيد المحلي أو الإقليمي، كما لا زال لدى شعوب المنطقة الطاقة والعزم للسعي نحو العدالة الاجتماعية ومناهضة الاستبداد.
رأت السمان التحوّل الجذري المطروح وفق مفهوم عابر- استعمار مبني على مفهوم إنتاج الحيّز
أما السمان، فنبّهت إلى أنّ التفكير في تحويل حالة السيطرة والهيمنة تدريجياً إلى حال التحرّر وتطبيق العدالة الاجتماعية يكمن، في الواقع الفلسطيني، في إيجاد منهجية وآلية تحليل مركّبة واستراتيجية مركّبة للتعامل مع الواقع والتحدّيات، وأن التحوّل الجذري المطروح وفق مفهوم عابر- استعمار مبنيٌّ على مفهوم إنتاج الحيّز، إن كان على المستوى المفاهيمي أو التطبيقي أو على مستوى العلاقة مع المجتمع والفرد.
ومن جانب آخر، رأت أن مفهوم عابر- استعماري مبنيّ على نهج متعدّد التخصّصات واعتمد تطويره على نظرية إنتاج الحيّز بمكوّناته الثلاثة، بحسب هنري لوفيفر، وهي: الحيّز المُدرَك، ويندرج تحت متغيّرات الدافع الأساسي والمعرفة والقوّة والضعف والتكنولوجيا، والحيّز المعبّر، ومتغيّراته التي تتعلّق بالتخطيط الاستراتيجي وسياسة استحواذ الارض/ تحرير الأرض والممارسات العسكرية الاستعمارية والممارسات النضالية التحررية والسيادة، والحيّز المعاش ومتغيّراته التي تتمثّل في إشغال الحيّز الجغرافي (المستعمِر)/ واستعادة الحيّز وإشغاله (المستعمَر) والديموغرافيا والبُنية الاقتصادية والبنية الاجتماعية والثقافة.
لفت الجمل إلى توظيف الانقسام الاجتماعي سياسياً كلما تعالت المطالب الإصلاحية في الأردن
وتحدّث الجمل في ورقته "الانقسام الديموغرافي في الأردن وأثره في بناء الدولة" عن الحساسية فيما يتعلّق بالحوار حول انقسام المجتمع الأردني إلى "قبائل شرق أردنية عاشت في الأردن قبل إنشاء الدولة، وأردنيين من أصول فلسطينية وفدوا إلى الأردن بعد عام 1948"، متطرّقاً إلى ضمّ الأردن الضفّة الغربية إليه سنة 1950 ونصّ دستور عام 1952 على تساوي مواطنيّة الحقوق والواجبات. إلّا أن النظام اعتمد على العشائر الشرق الأردنية، وخصوصاً البدوية منها، في تشكل الجيش والجهاز البيروقراطي، وتعمّق ذلك بشكل أكبر مع نشوء الفصائل الفلسطينية التي تنازعت مع النظام، وصولاً إلى هزيمة حزيران/ يونيو 1967 واحتلال الضفة الغربية، ثم صدامات أيلول عام 1970.
وأشار إلى أن الشرق أردنيين استحوذوا على وظائف القطاع العام والجيش في ما تركّز نشاط ذوي الأصول الفلسطينية في القطاع الخاص، وبعد قرابة عقدين جرت خصخصة القطاع العام الذي قلّصه إلى حد كبير، مما أفقد قطاعاً واسعاً من الشرق أردنيين لشبكة الأمان الاجتماعي وتسبّب في حالة مُعارضة حادّة في صفوفهم.
وتطرّق الجمل إلى تأثير هذا الانقسام في ضوء أزمة مركّبة يعانيها النظام من فساد واستبداد تتفرّع عنها أزمات متعدّدة، موضحاً أن المشكلة الأساسية تتمثّل في الدستور الذي يعطي صلاحيات واسعة للملك، وهو رأس الدولة ومَصون من كل تبعة ومسوؤلية، في تناقض لمبدأ تلازم السلطة والمسؤولية، إلى جانب تمدّد الأجهزة الأمنية وضعف مجلس النواب، مشيراً إلى أن الانقسام الاجتماعي يوظَّف سياسياً بحيث يتم استدعاؤه كلّما تعالت المطالب الإصلاحية أو تزايدت الضغوط الخارجية على النظام لاتخاذ خيارات سياسية، خصوصاً تلك المتعلّقة بالقضية الفلسطينية.