"النباتية" لـ هان كانغ... الغريب الكوري

27 أكتوبر 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- "النباتية" للكاتبة هان كانغ تروي قصة يونغ هيه التي تقرر التخلي عن كل ما يتعلق بالحيوانات، مما يغير حياتها وحياة أسرتها، مستندة إلى حلم غريب يعبر عن رفضها للواقع.
- تتناول الرواية مفهوم الاغتراب والرفض للوجود البشري، حيث يؤدي قرار يونغ هيه إلى توتر علاقتها مع زوجها وأهلها، مما يزيد التوترات العائلية ويؤدي إلى محاولة انتحارها.
- الرواية ليست عن الامتناع عن اللحوم فقط، بل استكشاف للاغتراب النفسي والوجودي، حيث تمتزج الواقعية بالفنتازيا، مما جعلها تحظى بجائزة نوبل للأدب.

"النباتية" عنوانٌ عادي، حتى إنّه لا يبدو عنواناً، لرواية غير عادية. يونغ هيه المرأة التي يشكو زوجُها من عاديّتها المفرطة، والتي تزوّجها لأنّه لم يكن في مقدوره، تبعاً لطبيعته، أن يخوض مغامرةً غرامية. ما جمع بينهما هو هذه الروتينية والتقليد، لذا لم يكُن ينتظر أن تكون لها المبادرة، التي قلبت حياتها وحياة أسرتها.

ذات يوم تفاجئه بأنّها رمت كلَّ ما له علاقة بالحيوان، اللحم والحليب وسوى ذلك، ومنذ تلك اللحظة لم يعُد في مقدورها أن تتناول شيئاً من ذلك، أو تقبله في بيتها وثلّاجتها. أمّا ما وراء ذلك، وتلك هي المفارقة، فهو حُلم، حُلم ترى نفسها فيه في غابة تلاحقها فيها دماء ولحوم. لسنا هكذا أمام نباتية عادية. النباتية هنا هي الغريبة، يمكننا هكذا أن نُفكّر بـ رواية وجودية، في غريب آخر.

ليس الحُلم وحده هو الذي يقود يونغ هيه إلى النباتية. إنّه شيءٌ في داخلها، لا نعرف تماماً ما هو، فهو يُعبّر عن نفسه بالأحلام التي يستعصي فهمها، لكنّها تودي بصاحبتها إلى طلاق مع الحياة اليومية، مع الشأن العادي، مع الطبيعة نفسها. يونغ هيه لا تُغيّر هكذا معاشها فقط، بل تُغيّر حياتها كلّها. منذ تلك اللحظة تبتعد جنسياً عن زوجها، الذي تشمّ فيه رائحة اللحوم. نباتيتها تلك ليست أيّ نباتية، إنّها اعتراض على الشرط الإنساني كلّه. إنّها استدارة إلى حيث لا تعلم ولا تستطيع أن تستوعب، نوع من كُره الحياة، من كُره الجسد، وربما من كُره الذات. لذا لم يكن موقف زوجها، ومواقف أهلها، مراعياً لها أو متفهّماً. جميعهم أدركوا أنّهم أمام تخلٍّ كامل، أمام غربة شاملة. لذا صفعها أبوها وجعلتها صفعاته تلجأ إلى محاولة الانتحار بقطع معصمها، الأمر الذي انتهى بطلاقها من زوجها.

نباتيةُ البطلة اعتراضٌ على الشرط الإنساني كلّه

"النباتية" الرواية الأساس في "جائزة نوبل للأدب" التي نالتها مؤلّفتها الكورية الجنوبية هان كانغ مؤخّراً، ليست رواية أيّ نباتي، من الكثيرين الذين لا يأكلون اللحوم وهُم بالملايين، بل إنّ النباتية هنا ليست كلَّ شيء. إنّها، منذ البداية، ترفع النباتية إلى مستوى قطيعة تامّة مع الوجود البشري. إنّها هكذا تضع الجسد في وجه الحياة كلّها، إنّها تنصُّل تامّ من الواقع ورفضٌ قطعي له.

"النباتية" هكذا لون من اغتراب نهائي. يونغ هاي بطلتُها ليست جامحة، إنّها تقريباً رصينة ورائقة، لكن ما فعلته يتجاوزها. إنّه يأتي من داخلها. إنّه أقرب إلى الوحي، أقرب إلى الإلهام. إنّها تتلقّاه من حلمها، الذي هو حياة أُخرى لها، الحلم الذي يمتلكها ويغزوها من الداخل، والذي هو انسحاب تدريجي لها. لكن ليس هذا كلّ شيء.

هناك أختُها التي هي، من حيث المبدأ، نقيضتها، فهي بعكسها سيّدة أعمال ناجحة، ومتزوّجة بفنّان تشكيلي. إنّها سيّدة أعمال متزوجة بنقيضٍ لها، أي بفنّان، أي برجُل حُلم. هي في ذلك عكس أختها الحالمة المتزوّجة برجُل واقعي، رجُل أعمال هو الآخر. هي مثل أختها راضية بحياتها، لكنّه الرضى نفسه الذي قاد أختها إلى الانفصال. زوج أختها كان يراها أقرب إليه، زوجها بالعكس يرى أختها أقرب إليه، ليس فقط بروحها، بل أيضاً بجسدها، بتلك الدمغة المنغولية في ردفيها.

ترضى يونغ هيه بأن تجلس كأنها موديل له يرسم على جسدها أزهاره وطيوره، ويرسم على جسد ج صديقه الذي يستحضره لها، وهي في كلّ ذلك راضية غير معترضة. إنّها تجاهه، شأنها تجاه كلّ شيء، مذعنة. اعتراضها القطعي يبدو وكأنّه يأتي من خارجها. إنّها، في النهاية، لن تمانع في أن تُجامعه لتعثر أختها عليها في سريره. ستكون هذه بداية انتقالها إلى مصحّ، وتنقُّل بين مصحات نفسية، لكنّها أثناء ذلك تُواصل اغترابها الكامل، انفصامها الكلّي، إذ لا تلبث أن تتخيّل، هذه المرّة، أنّها شجرة، وأنّها كالأشجار لا تحتاج إلى أكل، بل يكفيها الهواء. هنا نجد أنفسنا أمام النباتية وقد تحوّلت إلى رفضٍ للشرط الإنساني كلّه، إلى اعتراض على الحياة بكاملها.

رواية هان كانغ ليست كما تراءى لنقّاد اعترضوا على خيارات نوبل، عادية. قد تكون نوبل لقرنح وآرنو كذلك، لكن رواية الكورية نوعٌ من المزج بين واقعية سحيقة وفنتازيا تخرج من جذورها، نوع من السحر والفكر وحتى الشعر. إنّها استثناء حقيقي ورواية فريدة.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون