استمع إلى الملخص
- استغلال الراوي لموهبته في التنبؤ لمصلحته الشخصية أدى إلى تحقيق مكاسب كبيرة، لكنه فقد قدرته في النهاية مما تسبب في ندم ومعاناة.
- فقدان الراوي لقدرته أدى إلى حياة مليئة بالحزن والبؤس، والندم العميق على إساءة استخدام موهبته وعدم قدرته على منع مأساة إنسانية.
في البدء كانت أشبه بلُعبة ألهُو بها مع نفسي، أُمرِّن نفسي وخيالي على التنبُّؤ بما سيحدُث داخل الفيلم الذي أُشاهده، أقول سيحدُث كذا وكذا، ويحدُث ذلك فعلاً. لأكُون صادقاً أحياناً كثيرة كانت خيالاتي تَحيدُ عن السيناريو الأصلي، لكن لمرَّات أكثر كانت تصيب، وتتطابق مع النصّ والحركة، وبيني وبين نفسي كنتُ أعزو ذلك إلى مشاهداتي الواسعة للسينما، وقراءاتي الكثيرة للروايات، أقول: إنّني ربّما أشترِكُ مع الكاتب مثلاً في القراءات التي دعمَت موهبته. لذا اعتقدتُ أولَ الأمر أنّها ربّما تكون خبرة مُتراكمة في حساب الاحتمالات الفنّية، لكن بعد مدّة تيقّنتُ أنّها موهبة خاصة بي، لكنّها ليست موهبة فحسب؛ أعتقد أنّها التقاطٌ لإشارات إلهية، وصرتُ لا أبخل على أحد بتلك الموهبة!
بدأتُ بتوسيع لُعبتي، وصرتُ أتنبّأ بأحداث حقيقية، صحيح أنني بدأت صغيراً في ذلك، شيءٌ من قبيل مَن سيفوز بمباراة السبت القادم؟ أو أيّ فيلم سيتصدّر الإيرادات؟ من سيأخذ الأوسكار؟ لكنّي بعدها ذهبتُ إلى أبعدَ من ذلك، صرتُ أجرّب تنبُّؤاتي مع الأسهُم، قلتُ سيرتفع سهمُ الذهب، وسيتضاعف الفضّة مرّتين، وصارت الناس تتنبّه لتقديراتي على أنّها تقديرات غَيبية ليست لشخص يَهذي بل لشخص يعرف.
ومع الوقت صارت تنبُّؤاتي لا تُخطِئ الهدف أبداً، تأتي مُتطابقة تماماً كأنّها الواقع نفسه، وحتى أدنى التفاصيل الصغيرة؛ ماذا سيدور من حديث مع رجل المرور الذي سيُوشك أن يُحرّر لي مخالفة ولا يفعل؟
هكذا تسير الأمور أعيش الحياة على أنّها حياة مُعادَة وقديمة، لا يُمكنني أن أحفل بها، وحتى إنّني لا أنزعج من طلبات الناس المتكرِّرة في استشراف المستقبل، المستقبل الذي هو عندي ليس أكثر من حاضر.
وأحياناً أشعُر بالخجَل لأنّي أستخدم هذه المهارة بطريقة مُحتالة، مثلاً خزّنتُ الطحين في البيت يوم علمتُ أنّ حرب أوكرانيا ستقع، واشتريتُ أثاثاً جديداً لمنزلي يوم عرفتُ أنّ التضخُّم العالمي سيحدُث، وتخلّصتُ من كلّ العُملة العراقية التي أملكُها قبل أن يسقُط الدينار قتيلاً أمام الدولار، هكذا كنتُ قد سبقت العراقيِّين بحُظوظي، وحشدتُ أعين الناس حولي حاسدين وطامعين بما أملك من معرفة.
لكنّني فقدتُ كلّ ذلك مؤخّراً، سلَبَ الله منّي هذه المنّة، وتركني أمام المستقبل الذي لا أعرف عنه شيئاً، صرتُ أعيش في محنة وندم كبيرَين، لقد عاقبَني الله على إساءتي وغُروري واستسلامي لغرائزي، لقد استخدمتُ تنبُّؤاتي في دَعْم الخارجين عن القانون والمارقين واللصوص، وانتهى بي الأمر إلى العمى، لا يُمكنني أن أحزر المستقبل القريب حتى المستقبل الذي سيأتي بعد دقيقة من الآن.
وبعد كلّ ذلك، لم أعتد على حياتي الجديدة، حياتي التي تخلو من التنبُّؤات حياة بطيئة ومجهِدة، لا يُمكنني فيها أن أُساعد أحداً بالمُراهنات، ولا الأسهُم التي ستربح، ولا الصاحب الذي سيكون وفيّاً معي.
لقد عدتُ إلى حياة عاديّة مفتوحة على كلّ الاحتمالات، ولا يُمكنني أن أحزر احتمالاً واحداً منها، ثم ماذا؟ وجدتُ نفسي أفقد الثقة بقراراتي ومن ثم فقَد الناس ثقتَهم بي وهجرني المحبّون والطامعون والمطبّلون. لم أجد أحداً حولي، وكنتُ شديد الحُزن والبؤس على ما أضعته، حتى شعرت أنني سأموت من شدّة حُزني وندمي. لكنّي في الآونة الأخيرة اكتشفتُ أن لا قيمة لحُزني وندمي على الحُزن الذي تعرّفت إليه مؤخّراً، الإحساس بالعجز الذي أصابني، لقد نبَتَ ندَمٌ آخر في صدري، أكبر من كلّ ما عرَفه الناس من أنواع الندم، حين كنتُ جالساً أُطالع الأخبار، رأيتُ الطفل الذي فقَد رأسه يُرفَع إلى السماء بيدَين مُرتجفتين، كانتا تسألان الله بماذا أخطأنا ليحدُث ذلك كلّه!
كنتُ قد شاهدت ذلك بكُلّ تفاصيله، مكان الرأس المقطوع، وبقايا الرقبة المهشّمة، وخلف الرأس حريقٌ يَلتهم الخِيام، وصياح النسوة، قلتُ لنفسي لو أنّني أرى المستقبل لأخبرتُ الولد الصريع أن يبتعد عن تلك الخِيام، لقلتُ للنسوة العزيزات أن يذهبنَ بأنفسهنّ وأطفالهنّ إلى مسافة أبعد، لكنّ الله سلَب منّي بصيرتي، وتركني أتطلّع إلى تلك الرقبة المهشّمة من دون معرفة شيء عن اليوم التالي.
* كاتب من العراق