اهتماماتٌ بلقانية بصاحب "الاستشراق": محاولة لفهْم ما يحدث في فلسطين

21 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **تأسيس أقسام الاستشراق في البلقان وتطورها**: بدأ الاستشراق في البلقان بإنشاء قسم في "جامعة بلغراد" عام 1926، وتطور مع تأسيس "المعهد الشرقي" في سراييفو عام 1950 و"جامعة بريشتينا" عام 1973.

- **تأثير إدوارد سعيد على الاستشراق في البلقان**: ألهم كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق" حارث سيلاجيتش وأسعد دوراكوفيتش، مما أدى إلى ظهور مفهوم "الاستشراق الألباني" عام 2000 وصدور الكتاب في تيرانا بطبعتين.

- **نشاطات المركز الألباني للدراسات الشرقية**: تأسس المركز في تيرانا عام 2008 بقيادة إرمال بيغا، وأصدر كتاباً عن إدوارد سعيد ونظم ندوة علمية، مما يعكس تزايد اهتمام الألبان بالقضية الفلسطينية.

في عام 1926، تأسّس في "جامعة بلغراد" أوّل قسم للاستشراق في البلقان، الذي كان يُمثّل آنذاك نزعة الأوروبية المركزية. ولكن مع تأسيس يوغسلافيا الجمهورية عام 1945 وانفتاحها على الشرق، تأسّس في سراييفو عام 1950 "المعهد الشرقي"، الذي مثّل مفهوماً مختلفاً للاستشراق يقوم على اعتبار التراث الشرقي الموروث (المخطوط والمطبوع)، جزءاً من دراسة الذات البوسنوية خلال قرون الحُكم العثماني، وليس "دراسة الآخر المختلف" من وجهة نظر مركزية أوروبية.

وفي عام 1973، تأسّس ثالثُ قسم للاستشراق في "جامعة بريشتينا"، أحدث نقلةً نوعية بحُكم توجُّهات مؤسّسه حسن كلشي (1922 - 1976)، الذي عمل في قسم الاستشراق بجامعة بلغراد واختلف معه، وأيضاً بحُكم التنوّع في هيئة التدريس التي شملت أسماء غدت معروفة؛ مثل راده بوجوفيتش، وأسعد دوراكوفيتش، وحارث سيلاجيتش، وفتحي مهديو وغيرهم.

في هذا السياق، كان حارث سيلاجيتش (الذي أصبح لاحقاً وزيراً ثم رئيساً للوزراء والدولة في البوسنة)، الأكثر انفتاحاً على ما يصدر في الولايات المتّحدة بحُكم رسالته للدكتوراه، وكان أوّل من حصل على نسخة من الطبعة الأُولى من كتاب إدوارد سعيد "الاستشراق"، الذي صدر عام 1978، ومن أوائل من استعرض هذا الكتاب باللغة العربية في مقالة نشرها بمجلّة "المعرفة" السورية عام 1980.

صدر كتاب "الاستشراق" في تيرانا بطبعتين متتاليتَين عامَي 2005 و2006

كان حديث سيلاجيتش عن كتاب إدوارد سعيد يكشف لنا علماً جديداً، وهو الذي ألهم زميلنا أسعد دوراكوفيتش ليشتغل لاحقاً عدّة سنوات ليُصدر أخيراً كتابه "علم الشرق" أو "الأورينتالوجيا" عوضاً عن مفهوم "الأورينتاليزم" الذي يحمل أجندة أيديولوجية وسياسية. وفي هذا السياق، وُلد في هذا القسم عام 2000 "الاستشراق الألباني" كمفهوم ومقاربة مختلفة إزاء التراث الشرقي للألبان في اللغات المختلفة (العربية والعثمانية والفارسية والألبانية بالحروف العربية)، باعتباره جزءاً من التراث الثقافي الألباني وليس تعبيراً عن الآخر المختلف.

ولم يكن صدفةً أن يبرز الاهتمام الكبير بكتاب سعيد "الاستشراق"؛ حيث صدر في تيرانا أوّلاً في طبعتين متتاليتَين عامَي 2005 و2006، ثمّ في ترجمة جديدة في سكوبيه عام 2009، بعدما تأسّس فرعٌ آخر للاستشراق في جامعة تيتوفو المجاورة.

وفي العام ذاته، تأسّس في تيرانا "المركز الألباني للدراسات الشرقية"، الذي كان لمُؤسّسه ومديره إرمال بيغا Ermal Bega ولعٌ كبير بإدوارد سعيد ومؤلّفاته، وهو ما انعكس بشكل واضح في مجلّة المركز "أورا" Ura (جسور)، منذ صدور عددها الأوّل في 2008 وحتى الآن. وضمن هذا الاهتمام، أصدر المركز كتاباً بعنوان "إدوارد سعيد: دراسات مختارة من مجلّة أورا 2009 - 2023" (تيرانا 2023)، ليكون في متناول طلّاب الاستشراق في الأقسام المذكورة والمهتمّين بشكل عام.

إرمال بيغا
إرمال بيغا، مدير "المركز الألباني للدراسات الشرقية" ورئيس تحرير مجلّة "أورا"

في مقدّمته للكتاب، يورد مدير المركز ورئيس تحرير مجلّة "أورا" إرمال بيغا، عدّة دوافع وراء إصدار هذا الكتاب، تنطلق من شغفه وتقديره الكبيرَين لأعمال إدوارد سعيد. ولذلك، فقد تضمّن العدد الأوّل في 2008 من المجلّة دراسةً عامّة للباحث الألباني أولسي يازجي عن إدوارد سعيد وإسهامه، ثم تقرّر منذ 2009 أن يتضمّن كلّ عدد من المجلّة دراسة مترجمة من أعماله، وهو ما قام به بيغا نفسه ونخبةٌ من المهتمّين به من ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية.

وفي هذا السياق، نظّم المركز في 27 حزيران/ يونيو الماضي ندوةً علمية بعنوان "إدوارد سعيد ومفهومه الحديث عن الاستشراق"، شارك فيها بأوراق عددٌ من الباحثين من ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية، وذلك بدعم من السفارة الكويتية في تيرانا. كما شاركت فيها هاتفياً السيّدة مريم سعيد من الولايات المتّحدة التي شكرت المركز على هذه البادرة الأُولى من نوعها في البلقان.

في مقدّمته للكتاب الجديد، يوضّح بيغا أنّ الأمر يتعلّق بشخصية فريدة لم ينحصر إسهامها فقط في الكشف عن أدلجة الاستشراق واستخدامه كأداة معرفية في خدمة الأجندة السياسية، بل في عدّة مجالات أُخرى متنوّعة، كما في الدراسات ما بعد الكولونيالية والدراسات اللغوية والفلسفة والموسيقى، بالإضافة إلى دوره المهمّ في الدفاع عن حقوق الشعوب، وعلى رأسها شعبه الفلسطيني الذي "لا يزال إلى اليوم يعاني من آثار الاحتلال الصهيوني الغاشم" (ص 5).

يصدر الكتاب وسط تزايُد اهتمام الألبان بالقضية الفلسطينية

ومع ذلك، لا يُخفي بيغا في مقدّمته الدافع الآخر المهمّ، ألا وهو اللحظة التاريخية في 2023؛ فهي من ناحية تُصادِف مرور عشرين سنة على رحيل إدوارد سعيد، ومن ناحية أُخرى شهدت بداية الحرب على غزّة، التي "جعلت من صدور هذا الكتاب باللغة الألبانية أمراً ضرورياً لفهم ما يحدث في ذلك الجزء من العالم" (ص 7).

وإذا نظرنا في الدراسات الثلاث عشرة المنشورة في هذا الكتاب (التي تغطّي 181 صفحة)، لوجدنا أنّها متنوّعة ومترجمة كلّها من اللغة الإنكليزية، وهو ما يؤشّر إلى جيل ألباني شاب معنيّ وقادر على التواصل مع اللغة التي كان يكتب وينشر بها إدوارد سعيد أهمّ مؤلّفاته.

وضمن هذا التنوّع، نجد أنّ بعض هذه الدراسات تتعلّق بالاستشراق ("مدخل إلى الاستشراق" وغيرها)، واللغة ("أن تعيش في اللغة العربية" و"لغة الشعب أو لغة الدارسين" وغيرها)، وعن العرب والإسلام ("سارتر والعرب" و"حالة العرب" و"الإسلام بعيون غربية" وغيرها)، وفلسطين ("مَشاهد من فلسطين" و"قصّة مذكّرات- خارج المكان" وغيرها).

وبهذا، فإنّ الكتاب يأتي في هذه الظرف الذي يتزايد فيه اهتمام الألبان في البلقان (ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الشمالية)، بالقضية الفلسطينية مع تصاعُد الحرب في غزّة، التي دخلت الشهر الثاني عشر، وهو بذلك لا يفيد فقط طلّاب أقسام الدراسات الشرقية بكونه مرجعاً عن أفكار ومواقف إدوارد سعيد، بل يُفيد أيضاً المعنيّين بفهم خلفية العلاقات بين الشرق والغرب وانعكاسها على الأوضاع الحالية في الشرق الأوسط.

المساهمون