تاريخ طفلة مصرية في حملة نابليون

29 يونيو 2023
نابليون وقادة جيشه المحتل في مصر عام 1863 (تفصيل من لوحة لـ جان-ليون جيروم، Getty)
+ الخط -

يفتح ناصر سليمان، أستاذ التاريخ الاجتماعي الحديث والمعاصر، أرشيف الإمبراطورية الفرنسية ويقف على آلاف الأوراق القضائية والوثائق المكتوبة بلغة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعضٌ منها مصطلحاتٍ قانونية لم تعد مُستعملة في اللغة الفرنسية الحديثة التي تعلّمها وأتقنها. ولكن هذا الشغل المُضني حتى يصبح شغلاً شاغلاً يحتفظ دائماً بقوة دفعٍ، يمكن وصفُها بالشغف الذي تقدّمه مصادفة لا تقل حيوية عن نباهة التقاطها.

إن من بينها أوراقاً تخصُّ الكتلةَ الصامتة التي تسقط دائماً من التاريخ الرسمي. قصة طفلة فرنسية ظلّت التحقيقات القضائية تسمّيها "الطفلة المصرية"، وأمها زوجة الجنرال ديستان، ظلّت "المرأة المصرية". وهو يحكي قصّته مع هذا الشغف حين التقى ذات صيف نيللي حنّا، أُستاذته في التاريخ العثماني في الجامعة الأميركية بمصر، وكانت تحملُ في يدها نسخة مصوّرة من "جورنال الإمبراطورية"، في العدد الصادر عام 1809، لغرض بحثيّ يخصّها. 

لفَتته المادةُ المنشورة تحت عنوان "قضية مشهورة"، ليجد نفسهُ أمام امرأةٍ مصرية اسمها أنّونة، متزوّجة من جنرال أرستقراطي يدعى ديستان، أحد ضباط "جيش الشرق"، أو في تسمية أُخرى "جيش بونابرت"، واسمه مخلّدٌ على قوس النصر في باريس. خُلّد بأمر من بونابرت مع أنّه لم يخض حروب فرنسا التوسّعية في أوروبا، والتي كانت تمنح ألقاب الخلود الإمبراطورية، فقد كان الجنرال ضمن العائدين من مصر بعد توقيع معاهدة استسلام، وخسارة ثلثي الجيش على برِّ وبحر مصر، وانهيار حلم نابليون بأن يكون الإسكندر الجديد على الشرق.

قصة مصرية

غالباً ما تُنسب عبارة "التاريخ يكتبه المنتصرون" إلى نابليون، لكن الجريدة الإمبراطورية تحمل قصةً مصرية على أرض فرنسا. بل هناك مصريون عاديّون يجعلون تاريخ الحملة أبعد من ثلاث سنوات، وهي المُدّة التي بدأت بالغطرسة العسكرية محفوفة بـ 168 عالماً، ثم جرّ ذيول الانكسار ودفع نابليون لكتابة مذكراته مرّتين، في كل منهما كانت مصر كابوساً يطارد مناماته. إنه تاريخ ممتدٌّ على عشر سنوات، منذ بدأت نذر الهزيمة تلوح إلى أن رست السفن لشحن القادة والعسكر والعائلات عبر البحر المتوسط إلى فرنسا، ومن بين هؤلاء امرأة مصرية حُبلى، كانت لها أولوية صعود السفينة بوصفها زوجة جنرال بالغ الثراء، كان قد وصل إلى فرنسا قبل زوجته التي مكثت في مرسيليا في "الحيّ المصري"، بين جموعِ من فرّوا حتى لا تطاولهم عقوبة الخيانة، وتلاحقهم بنادق وسيوف المماليك، ولم يكونوا كلهم مصريين وإنما بينهم شوام ومماليك وأرمن.

ناصر سليمان (تصوير: العربي الجديد)
ناصر سليمان (تصوير: العربي الجديد)

يُخبرنا ناصر سليمان في سيمنار استضافه مؤخراً "مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية، بالدوحة، هذه القصة المفتاحية بالمعنى الذي جعلَ مشروع القراءة التاريخية ينطلق من منطقته المُعتمة. وقد كان في محاضرة سابقة بـ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يطرح دراسة ثانية بعنوان "الحب في زمن الاستعمار". وسمح تعرُّفي إليه، وجلسات مطوّلة خلال الأيام الماضية، بمعاينة هذا الحقل الدراسي، والبداية الصعبة من طرق باب الأرشيف الإمبراطوري بحثاً عن تاريخ طفلة ستلدها أمُّها المصرية، ولا تعترف بها الدولة الاستعمارية التي تحتكم إلى "قوانين حديثة" على ترابها لا تنطبق على امرأة قادمة من "شرق غير حديث".

ولادة ماريّا

في المسار البحري وصولاً إلى إيطاليا فاجأ المخاض أنّونة، فأمر القبطان بأن ترسو السفينة عند جزيرة كيفالونيا غرب اليونان، وولدت بنتاً سمّتها "ماريّا" ستحملُها إلى أرض فرنسا لتلتقي رب العائلة ديستان. غير أن ديستان حليف سياسات نابليون كان له عدو لدود وهو جنرال مخضرم يدعى رينييه، يؤمن بأن شرف فرنسا يقتضي خروجها من مصر، وهذا ما لم يوافق عليه عبد الله جاك مينو، خليفة كليبر، الذي اغتاله سليمان الحلبي، فجرى طرده، وتولّى ديستان اعتقال زميله رينييه وجلْبه مرغماً إلى السفينة ليعود إلى البلاد. حين شقت صرخة أنّونة سماء مرسيليا، كان الخبر الصاعق قد بلغها من باريس بأن زوجها خاض مبارزة الموت مع رينييه. وهذا تقليد قروسطي كانت ما زالت بقاياه فاعلة في فرنسا، التي تفاخر بأنّها صاحبة الحقوق المدنية وتعرّفها بـ "الكود النابليوني". يتّفق أيُّ اثنين على المبارزة حتّى يقتلَ أحدهما الآخر، والقضاء لا يتدخل ولا يعترض سبيل القاتل ولا يعطي للقتيل حقاً، لأن الموت متفّق عليه بإمضاء الطرفين.

شهود وجوابات

كان الموت من نصيب الجنرال ديستان زوج أنّونة، ووالد الطفلة ماريّا التي ستكبر سنة وراء سنة في مواجهة المحكمة، برفقة الأم بلا أي قوة قانونية حاسمة، لأنّها بكل بساطة ليس لديها وثيقة تُثبت الزواج، بالتالي نسَب ابنتها. ليس لديها سوى الشهود من عِلية القوم والرُتب العسكرية الرفيعة الذين حضروا إكليل الزفاف في كنيسة مصرية، ولديها الجوابات المتبادلة بينها وبين زوجها. يستخدم ناصر سليمان كلمة "جواب" التي كانت مستعملة قبل مئتي سنة حتّى اليوم، وتردُ في رسائل أنّونة، التي يُنطق اسمها هكذا بالمصرية، أو آنّا، وفقاً لاسمها الرّسمي في المحاكم الفرنسية. يستحسِن الكلمة ولعلّه محقّ في هذا، فالجواب ليس فقط رداً على رسالة، بل يمكن أن يبدأ الشخص به من باب التيمّن، كأنْ نسمي الإبل الراحلة قافلةً على أمل عودتها، كما أنَّ الملدوغ من الحيّة "سليمٌ" لأننا نتأمل له الشفاء.

ظلّت قضية الأم وابنتها معلّقة، وانقطع ذكرهما بعد 1810

لا الجوابات ولا الشهود يقنعون القاضي بأن ماريّا ديستان، ابنة الجنرال، سليل العائلة الأرستقراطية التي نظرت إلى ميراث ضخم عليه أن يتوزّع من دون أيّ حصة لهذه السيدة وطفلتها. حتى الذين آمنوا بقضيتها مثل الجد، والد الجنرال، تراجع تحت ضغط الورثة الآخرين الذين استخدموا تاريخ الحملة لإثبات عدم وجود ابنهم بمصر في الفترة التي وقع فيها الحمل، بل في سورية. الوجه الكوميدي للمأساة كان هنا. لقد أصبح كلَ فردٍ من العائلة معنياً بتفاصيل الحملة لضرب الحمل، الذي قالوا إنّه قد يكون نتيجة ليلة بين رجل وعشيقة، لا بين زوجين، بل قالوا ربّما هي جارية عبدة ينبغي بيعها هي وابنتها، ثم أفادوا أخيراً بأنها أرثوذكسية وديستان كاثوليكي.

زواج مدني

أين العقدة التي تشكّلت في قصة هذه السيدة وطفلتها وجعلت القضاء يراوح طيلة عشر سنوات من 1800 حتى 1810؟ من بين ما رسخَ من قوانين نابليون هو أنَّ أي زواجٍ عليه أن يكون مدنيّاً، أي موثّقاً. واجهت امرأةٌ مصريّة أخرى اسمها نفيسة؛ وهي مملوكية وزوجة ضابط مدفعية، ما واجهته أنّونة، وتعرّضت للإنكار من عائلة الزوج الذي قُتل أيضاً كما قُتل ديستان، لكنّ القضاء رفضَ دعاوى العائلة، وأعطى الحكم لصالح نفيسة وقد كان حظها طيباً، إذ سارع الزوج قبل وفاته إلى تسجيل الزواج في البلدية. 

يفحص ناصر سليمان هذا الاحتكاك الثقافي بين الشرق والغرب، إذ إننا نعطي في الشرق قيمة للشهادة الشفوية. وفي مصر لم تكن الكنيسة توثّق الزواج، وفي اليونان لم يكونوا يوثقون المواليد لذلك اكتفوا بتعميد الطفلة. إن فكرة التوثيق عموماً في المواليد والزيجات والوفيات هي بنت العصر الحديث.

ماذا لدى السيدة أنّونة؟ لديها الكثير ممّا يُقنع أي واحدٍ منا بأنّ ستة جنرالات أقسموا أنّهم حضروا الزفاف، إذا ما وضعنا جانباً الرسائل المتبادلة بين زوجين. من بين هؤلاء الجنرالات مينو، الذي اشتهر باسم عبد الله جاك مينو بعد إسلامه، ليتسنّى له مصاهرة أحد الأعيان في مدينة رشيد، فكانت زوجته زبيدة. جاء في شهادة مينو القول "أُعلن باسم الحقيقة والشرف بأنني حين كنتُ أقود الجيش وأحكم مصر، أنَّ الجنرال ديستان متزوجٌ وحضرتُ العرس، ولم يكن هناك تسجيلٌ للزواج في سياق أعراف البلاد". كان مينو يزمع إنشاء مؤسّسة في مصر تُسجّل بها الزيجات والمواليد، غير أن ذلك وقع قبل نهاية الحملة 1801 ببضعة أشهر، فلم ينفّذ، وقدّمت أنّونة بدورها هذا الدليل للمحكمة.

بداية برهان

مع كلِّ سنةٍ تكبرُ فيها الطفلة ماريّا ديستان يتضخّم ملف قضيتها، وتصبح الأمّ قادرةً على التحدّث باللغة الفرنسية قدر ما تدفعها المأساة التي تواجهها على مدار عشر سنين. إنها سنوات موثّقة، وتحتاج إلى مزيدٍ من البحث قد لا يفضي إلى الكثير بعد أن أمّنت المحكمة معاشاً للأم والطفلة، بانتظار أن يصدر تشريع قانوني ينظر إلى هذه الحالات ويجعلها بالتالي وريثة. أقصى ما نالته أنّونة قول القاضي بالحرف: "أنا مقتنعٌ بأنّك زوجته، لكن لا أستطيع الاعتراف بذلك"، ووصَف ما قدّمته من جوابات وشهادات الشهود بأنها "من جهة العدالة هي بدء الإثبات الكتابي، لكنه ليس دليلا كاملاً". إنها "بداية برهان، والدولة تفترض أن هناك حالة زواج، لكنْ من دون تأكيد حقيقة الزواج"، إذ لا بدَّ من عقد مكتوب.

يواجه المؤرخ تحدّياً حين تنعدم أو تكاد ذاكرة الماضي، حول حقبةٍ ما أو فئاتٍ اجتماعية لم تُخلّف وراءها الشيء الكثير الذي يُمكن أن نعتدّ بدراسته، لنضيء من تفاصيله الصغيرة أو المشتّتة ما يكشف معنىً يرتبط بها. يزدادُ الأمر صعوبة كما يحاجّ سليمان مع فئة صامتة لا تكاد تمتلك ذاكرة واعية، تمكّنها من أن تكشف عن نفسها، أو أن تكتبَ تاريخاً لمرحلة من عمرها، لم تكنْ تعي تحوّلاتها ولا مغزى ما كان يجري من حولها، ليصبح السؤال الكبير: كيف يمكننا خوض هذا التحدي بحثاً عن ذاكرة بديلة، تمكننا من استعادة قصتها الحقيقية؟

تحرير الصوت

يتحدّث هنا عمّا يأمل أن يكون تحرير صوت من أخرستهم الظروف القاهرة، يتناولها وفقَ رؤيةٍ منهجية نقدية، تضع الصامتين في سياق أوسع من تطوّر الأحداث المُرتبطة بهم، لتصبح قصّتهم قصّة المجتمع نفسه، وما أصابهم من تحوّل في حياتهم الصغيرة، هو انعكاس واضحٌ لتحوّل أكبر طاول مجتمعهم. فالجديد في قصة ماري ديستان أنها كانت هي نفسها نتاجاً لهذا الحدث الذي شكّل منعطفاً تاريخياً في علاقة الشرق بالغرب، وكانت هي نفسها أيضاً التي كتبت لحملة بونابرت فصلاً مجهولاً؛ لم نكن نتصوره أو نعرف عنه شيئاً لا في الأدبيات المصرية أو الفرنسية، جرت وقائعه بعد جلاء جيش بونابرت مهزوماً في مصر وعودته إلى فرنسا في أواخر عام 1801.

عاشت المرأتان مصريتين ولم تقبلهما فرنسا مواطنتين

تكوّنت القصة على أرض فرنسا، لا مصر، التي لم ترَها ماريّا ولم تلامس قدماها حبّةً من رمالها. بيدَ أنّ مصر حاضرة في كلّ مكونات الأحداث وتطوُّر مشكلتها أمام القضاء الفرنسي وقد مثّلت له امتحاناً كبيراً، وحفّزت قريحة القانونيين للدعوة إلى ضرورة سنّ قانون جديد خاصّ بحالتها، حتى لا تضيعَ حقوق جيل يُمثّلها أو تمثّله هي بتجربتها الحزينة. جيلٌ أنشأته الموجة الاستعمارية في مجتمعات كانت ضحية احتلال جيوشهم لها. فالتاريخ الرسمي يرتبط بالقادة وتبدو الشخصيات الكبرى هي العَلم على الحدث، لكن لا نعرف أثر الحدث الكبير على الشخص العادي.

يريد المؤرخ مونوغرافيا تحكي قصة الفرد في حدث كبير يتفاعل معه، يقرؤه ويعطيه مذاقاً آخر. ويرى كذلك أنَّ ثراء الذاكرة شرطٌ آخر لإمكانية التعمّق بدرجات متفاوتة في فهم ديناميات كانت متوارية خلف تشكّل الحدث التاريخي، ما قد يُتيح لنا إمكانية بناء تفسير للغز غامض ارتبط بالحدث الذي نهتمُّ بدراسته.

إنّه يدافعُ عن إمكانات هائلة وكاشفة في الأوراق الخاصة والوثائق المهملة من التاريخ النخبوي. ولدى اطلاعي على جملة من المشاريع التي صدرت في كتبه ودراساته بالعربية والإنكليزية والفرنسية، كنت أرى الجانب الروائي والسينمائي في هذه التواريخ التي لم يقيَّض لها موظفو سلطة يكتبون بأقلام رفيعة تاريخها السجين، وكذلك مؤلفات الكتّاب النقديين الذين يتمرّدون على المكرّس.

ثمّة رواية "البرازيل الحمراء" لجان كريستوف روفان حدّثته عنها. إنّها تستضيء بما قدّمه كلود ليفي شتراوس في كتابه "مداريات حزينة". يفتح عالِم الاجتماع الطريق لنبش سيرة طفلين يتيمين يخدعهما المستعمر، لينضما إلى حملة استعمارية فرنسية في البرازيل، ولأنّهما طفلان، فسيتعلّمان بسرعة لغة السكان الأصليين، وقد أغروهما بأنهما في البرازيل سيلتقيان والدهما الذي يبحثان عنه. إنّها قصة حقيقية من لحم ودم لطفلين أوروبيين وليسا شرقيين، كل ذنبهما أنهما يتيمان بلا حول ولا قوة، وجاءت الرواية ومن بعدها فيلم ليقولا ما لم تقله التواريخ المدبجة. وهذا ملائم لسيرورة العمل الذي مضى به ناصر سليمان إذ يقول "كنتُ أرى الطفلة تكبرُ أمامي، فعمدتُ إلى الابتعاد عن المنهج"، ولذلك أعطى قيمة عالية للجوابات الشخصية إلى جانب الجلسات القضائية.

السكة مقطوعة

إن من أشدِّ الأوراق عاطفة ما وقع عليه الباحث من رسائل مضَت عليها مئتا سنة ومنها رسالة أنّونة، في القاهرة، إلى زوجها، وقد كان في الإسكندرية وهي تقول إنها خائفة عليه لأن "السكّة مقطوعة"، إذ بدأ الحصار البحري الأنغلو عثماني بالترافق مع حرب العصابات الشعبية على البرّ المصري. وعلى نحو ما يبدأ تاريخ ماريّا وهي جنين، من خلال رسالة الأم "أنتَ تقول لي إنك سمعتَ من الناس أني حُبلى، وأرسلت تقول لنا ليش ما عرّفناكم بذلك؟ والحال احنا عادة البلد نختشي نقول إني حبلى. والحمد لله أن حضرتكم عرفتوا والكلام صحيح".

ملفّات القضاء تعكس وجهة نظر الدولة الفرنسية، وجوابات أنّونة وديستان تعكس الفاعلين في التاريخ الذين تجمع شهاداتهم لتقديمها للقاضي، وتحتفظ بالرسائل بوصفها أوراقاً  لا يشك بصدقيتها. تشير الرسائل إلى اللّغة الوسيطة التي تجمعُ بين الفصحى والدارجة، وهي كما يفيدنا الباحث، تُملى عادةً على كاتب ضمن تقاليد الطبقة الوسطى في مصر. علماً بأن أنّونة لا تتقن الفرنسية أثناء وجودها في مصر، وزوجها يردّ عليها برسائل عبر تُرجمان. تقول "بعد مزيد الأشواق إلى رؤياكم السعيد بكل خير، وإن سألتم عنا فلله الحمد طيبين بخير، ولا نسأل إلّا عنكم وعن سلامتكم التي غاية المراد.

واحنا لنا مدة خمسين يوماً لمْ جانا منكم مكتوب وبقى قلبنا عليكم من قلة المكاتيب، واحنا سألنا الناس في طريق الإسكندرية يقولون لنا لمْ في سكة حد يروح ولمْ يجي. والحال لمّا حضر لنا مكتوبكم الذي تاريخه غُرّة صفَر الخير صحبةَ الهجّانة ففرحنا فيه غاية الفرح وكان عندنا يوم عيد. وإن شاء الله تعالى عقبال يوم مجيئكم وسلامتكم الكاملة". في نهاية الجواب تقول له: "قلبنا داب علشانكم والمدة طالت قوي وربنا لمْ بقى يطوّلها ويورّينا وجهكم بخير وحال وصوله ترسلوا لنا رد جواب بالعربي وسلموا لنا على المعلم يوسف الترجمان".

عاشت الطفلة ماريا غريبة على حدود المجتمع الفرنسي، لم يشفع لها أنها حفيدة تاجر الخمور غابريال والد أنّونة، وهو من أصل يوناني عمل في خدمة فرنسا، لا، بل قاد الكتيبة اليونانية ضمن صفوف جيش بونابرت، إلى جانب الكتيبة القبطية، وهما معاً دمَجهما نابليون تحت اسم "صيّادي الشرق".

بقيت الأم تقاتل لانتزاع اعتراف بنسب ابنتها، مراهنة على أن أباها كان من رجالات فرنسا، وأن الشهود الفرنسيين من الطبقة العليا حضروا زفافها في الكنيسة، ولم تنلْ في النهاية سوى تفهّم القاضي وإيمانه بها وإنكاره في آن، حتى جاءت صرخة ماريّا وسط المحكمة وقد صار عمرُها عشر سنوات "هذا أبي الذي تُنكرونه عليّ، لو كان حياً لصرخ في وجوهكم بحقيقتي. إنني ابنته".

عاشت أنّونة وابنتها مصريتين ولم تقبلهما الدولة مواطنتين. ظلّت قضيتهما معلّقة ثم انقطع أي ذِكر لهما بعد عام 1810.

المساهمون