مَن سيرضى بالمدينة البطيئة هذه، مَن سيرضى ببغداد؟
ما لا يعلمه صديقي الذي سيحزم أمتعته الآن لزيارة بغداد، أنّك في العراق ستفقد أمرين: صبرك ووقتك، فتلك الأشياء ليست ملكاً لأصحابها، بل ملك الشارع والزحام.
إنّ زحام المدينة وتشوّه أبنيتها، وضيق شوارعها، إضافة إلى صوت مزامير السيارات والجوّ المُغبّر ذاك، ستجعلك حتماً شخصاً عراقياً بالضرورة وجاهزاً للعراك.
لشكلِ المدينة اليوم اتّصال تاريخي ببنائها القديم، حيث بُنيتْ بشكل عرضيّ فوق النهر، وخَسرت بذلك فرصة أن تحاذي شوارعها نهر دجلة، حيث غالباً ما تكون ظهور البنايات إلى النهر، ووجوهها إلى الناس. فالمدرسة المستنصرية مثلاً، وبلدية الدولة القديمة (القشلة)، تُعيق لقاء الشارع بالنهر، وحتى لو مررت بـ"شارع النهر" نفسه، لن ترى النهر أبداً، لأنّه محاط بالجدران.
وهذا ما سيفقدك فرصة أن تتأمّل النهر وأنت في الزحام. وفي "إحصائية" أجريتها في أحد أيام بغداد المشمسة، حيث وقفت مع ساعتي اليدوية تحت جسر الشهداء، أَعدُّ الدقائق التي يحتاجها المواطن العراقي للمرور من الجسر، تبيّن لي أنّ المرء يحتاج ركوباً إلى ثلاثين ثانية كي يعبر الجسر في سيارة مسرعة، بينما يمشي المترجّل فوق الجسر خلال دقيقة ونصف على الأغلب. وهذا الوقت القصير لن يترك لك أن تستفيد من صبر النهر وحكمته.
حتى لو مررت بـ"شارع النهر" نفسه فلن ترى النهر
أذكر سدهارتا الذي عرف السرّ وحدّثنا عنه، حين لازم النهر الذي وصل إليه، وصار ينصت له، حتى حدّثه عن الحكايات كلّها، ونال السكينة المنشودة.
يبدو أنّك إذا راقبت دجلة لساعات متواصلة يمكنك أن تنصت لحكاياتها، أو أن تنصت هي لحكايتك، وتتاح لكما الفرصة أن تتعاملا كصديقين متحابّين.
فقد قال أبو عبد الله، المعروف بابن بطوطة، عن بغداد قبل أن تعرف هذه المدينة زحام اليرموك: "ولبغداد جسران اثنان معقودان، والناس يعبرونهما ليلاً ونهاراً، رجالاً ونساء فلهم في ذلك نزهة".
والنهر صديق ثابت لا يهجر ولا يلوي الذراع، لا يغدر ولا يفشي الأسرار، كالإسفنجة يمتصّ غضبك وسمومك.
وهذا السرّ في الماء، يقودني لتذكّر سكّان سريلانكا، ذلك البلد الذي يطلّ على آخر نقطة في العالم، حيث يبدأ المحيط الهندي، لنجد أنّ ذلك أثَّر مليّاً على فلسفة الحياة اليومية عندهم، وخيارات الأديان والطقوس لديهم، فتجد الرجل يكتفي بقماش واحد، ومن الشَّعر ما قصر، هادئ الطباع، يتأمل أكثر ممّا يأكل، يرقد أكثر ممّا يراقب، ويقترب من العشب وربما يُحادثهُ أكثر منّي أنا العالق في الزحام.
فالخيار الآن أحد اثنين: إمّا أن يُعاد بناء المدينة بشكلٍ موازٍ للنهر، لنصبح أُمّة أقل رغبة في العراك والتناحر، أو أن يعودوا بنا إلى اللحظة التي وصلها بها ابن بطوطة؛ حيث كانت بغداد مرآةً صقيلة لا يشوبها الزحام.
"إلّا دجلتها التي بين شرقيها وغربيها كالمرآة المجلوّة بين صفحتين، أو العقد المنتظم بين لبّتَيْن. فهي تردها ولا تظمأ، ونتطلّع منها في مرآة صقيلة ولا تصدأ. والحُسن الحريمي بين هوائها ومائها ينشأ".
* كاتب من العراق