تفاصيل غير معلنة

08 يوليو 2024
ميسرة بارود/ فلسطين
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- سمعنا انفجارات متتالية، وخرجت لأجد زوجة عمي تبكي على صور جرائم الحرب، بما في ذلك أطفال ونساء حوامل. تزايدت الانفجارات، وظهر خبر عن قصف جديد في منطقة الشيخ رضوان، مما دفعني للركض نحو الشارع بحثاً عن أبنائي.

- وصلت إلى منطقة النادي الأهلي التي تحولت إلى ساحة دمار، حيث كانت طواقم الدفاع المدني تحاول انتشال بقايا الشهداء. التقطني رجل مسن بسيارته وأخبرني بحزن عن فقدانه لابنته وأحفاده في القصف.

- شعرت بالغضب من الإعلام الإسرائيلي الذي وصف الضحايا بالإرهابيين. حاولت الاتصال بممدوح الذي أخبرني أنهم بخير رغم انهيار أجزاء من بيتهم. تساءلت عن مستقبلي ككاتبة وسط هذا الدمار.

لم نكن قد استعدنا هواتفنا التي أرسلناها للشحن عند صاحب الطاقة الشمسية في الحارة، عندما سمعنا انفجاراً هز أعماقنا، ثم عدة انفجارات متتالية، خرجت لأجد زوجة عمي تتابع شيئاً ما على هاتفها وهي تبكي، اقتربت لأجدها عبر الإنترنت الضعيف جداً تتابع برنامجاً يعرض صوراً لجرائم الحرب يوم أمس، صور قطع لأجساد صغيرة، أيدٍ وأرجل وأجزاء من صدور ورؤوس وقطع أجنة صغيرة لنساء حوامل، ولأطباء يحملون أكياساً كبيرة من النايلون تحتوي على قطع من جثث الأبرياء، وقائمة طويلة بأسماء الشهداء وصور جثثهم المقطعة والمشوهة، كنت أغطّي فمي بيدي والدموع متحجرة في عيني عندما عدنا نسمع عدة انفجارات متتالية، وظهر خبر في أعلى شاشة الهاتف عن أنّ الانفجارات الجديدة في منطقة الشيخ رضوان، تحديداً في منطقة النادي الأهلي.

صدمتُ للمرة الألف ولم أشعر بنفسي وأنا أركض لانتعال حذائي ثم ركضت إلى الشارع، وأنا أهتف بأسماء أبنائي فهم من سكان هذه المنطقة، صرخت في الشارع عدة مرات بأسمائهم، كنت أركض ولا أشعر بالدموع التي أغرقت وجهي، كأنّي أتذكر أنّ زوجة عمي صرخت بي وأنا خارجة، وربما أتذكر صوت عمي المذعور يصرخ بي أن أعود لأن الوضع خطير جدًا، لكني لم أشعر بنفسي إلا وأنا وسط منطقة النادي الأهلي التي تحولت إلى دخان وجثث متفحمة وأشلاء متناثرة في كل مكان؛ رائحة الديناميت تختلط برائحة الدماء الساخنة، ولون الدخان الأسود المتصاعد من كل مكان يختلط بلون الدم، وبيوت المنطقة العالية الجميلة التي تحولت إلى أكوام من الحجارة ملأت المنطقة وأخفت الكثير من معالمها، وطواقم الدفاع المدني في كل مكان تحاول انتشال بقايا الشهداء بمساعدة رجال الطواقم الطبية والكثير من الناس، وجدتني أتابع الجثث التي كانت معظمها أشلاء لنساء وأطفال يقوم الناس بانتشالها بمساعدة الطواقم، وأنا أبكي بانهيار وأتوقع في كل لحظة إيجاد أبنائي، قصف آخر بالجوار جعل الجميع ينبطحون أرضاً وقصف آخر جعلهم يتفرقون راكضين هنا وهناك.

ركضت بدوري لأبتعد عن المنطقة فتعثرت قدمي بشيء ما على الأرض وكدت أسقط. نظرتُ إلى ذلك الشيء لأجده ذراعًا مبتورة ملطخة بالدماء لطفلة تطبق بيدها على دميتها التي لطختها الدماء بدورها، صرخت، غطيت فمي بيدي ودموعي تنهار على وجهي دون وعي، تحركت بطريقة عشوائية لا واعية وجسدي يرتجف من هول الفجيعة، سيارة تقف فجأة، صرير عجلاتها على الأسفلت مرتفع ويُفتح الباب:

- اركبي يا ابنتي.

رجل مسن يبدو عليه الهلع، ركبت معه وقلبي يخفق بقوة.. سمعته يردّد بصوت مرتجف:

- يا رب... اعمِ عيونهم عنا...

نظرتُ إلى ذلك الشيء لأجده ذراعاً مبتورة ملطخة بالدماء لطفلة تطبق بيدها على دميتها

استدرت إليه، دموعه تنسكب بشكل غير مألوف وهو يردد آية: "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون"...

نظر إليّ وقال:

- الأفضل ألا توجدي في أماكن القصف. الوضع خطير يا ابنتي.

قال إنه كان ذاهباً لإحضار ابنته من بيتها الواقع في نفس المكان، لكن البيت دُمّر بمن فيه، الجميع أكدوا له أنها وأبناءها كانوا في البيت قبل دقائق من الانفجار، لكنه لم يستطع التعرف على جثتها، الجثث مقطعة تماماً. ما يستخدمونه هو أسلحة غير طبيعية، ما الذي يستخدمه هؤلاء الإرهابيون لقتل الأبرياء. إنها أسلحة لم تستخدَم في أيّ حرب سابقة، إنهم وحوش وليسوا بشراً...

نزلت من السيارة وشكرته، ناولني إسوارة ذات حبيبات بلاستيكية ملونة بين الوردي والأبيض وقال بحزن:

- هذا كانت تصنعه لينا... إنها هوايتها المحببة.

عرفت أنّ ابنته اسمها لينا، وأنّ هوايتها صنع هذه الإكسسوارات الصغيرة. سمعته يهمس:

- اقبليها مني .

ترددت قليلًا ثم تناولتها، وقلبتها بين يدي. كانت كلّ خرزة تحوي حرفاً لتكوّن الحروف المكتوبة على الخرزات كلمة (love)، رفعت رأسي إليه، رأيته ينظر إليّ كأني ابنته الراحلة لحظة ثم يمسح دموعه التي انسكبت، ويردّد:

- لا تغامري بنفسك، مهما اعتقدتِ أنّك لست مهمة، أكيد أنت مهمة بالنسبة لأحدهم.

أصوات انفجارات أوقفت أمل؛ الشخصية الأدبية التي اختلقتها وتعكس صوتي السردي، عن الكتابة

لبستُ الإسوارة وأنا أمعن النظر فيها بحزن شديد، رأيته يبتعد مسرعاً بسيارته، فتسمرت أتابع آثاره بشرود، ثم دلفت إلى بيت عمي، صعدت الدرجات أسأل أبناء عمي عن هاتفي، وما زال الرعب واضحاً في ركضي وهلعي، وأنا أتناول الهاتف الذي أعادوه لي وقد شُحن جزء قليل من بطاريته بسبب ضعف ألواح الطاقة، اتصلت بأحد أقرباء أبنائي مرات كثيرة، أردت الاطمئنان على مكانهم دون جدوى، فالإرسال مقطوع منذ أيام، وشكرتُ الله أني استطعت أن أتصل هذه المرة، واستطعت السؤال عنهم وعرفت أنهم نزحوا الى رفح.

شعرت براحة مفاجئة جعلتني أنهار مكاني.

لم أعرف كم مرة غسلت وجهي لأستفيق مما رأيته اليوم، ولكن أيقظني صوت ابنة عمي الهادئ:

- أنتِ تستهلكين الكثير من الماء.

تذكرتُ أنّ الماء والكهرباء مقطوعتان منذ أول يوم في الحرب، وأن الناس أصبحت تخزّن الماء وتقتصد به خوفاً من الوصول إلى الجفاف، ارتميت منهارة على سريري وكل خلية في جسدي تنتفض مما رأيت.

صورة ذراع الطفلة وأشلاء الأبرياء تتراكم في ذاكرتي، أشعر بالغضب من نفسي، كيف يمكنني التسامح في ما رأيت! 

علت أصوات انفجارات متتالية أوقفت أمل (أمل شخصية أدبية اختلقتها تعكس صوتي السردي) عن الكتابة. بنات عمي يصرخن من خارج الغرفة بخوف، صوت ابن عمي الأكبر يهتف:

- حزام ناري على منطقتنا.

شغلت الراديو في هاتفي بسرعة وإذا بالمذيع يهتف لاهثاً:

"يا الله ! يا الله ! حزام ناري تشنه طائرات الاحتلال فوق رؤوسنا الآن في منطقة "الشفاء" و"تل الهواء" بمدينة غزة، الضحايا من الأبرياء يتساقطون حولنا أشلاء...".

يتصاعد صوته يبكي بحرقة واضحة ويكرر:

"يا الله يا الله يا الله! جثث محترقة وأشلاء لنساء وأطفال، الدماء في كل مكان حولي... أنقذنا أيها العالم نحن وحدنا هنا. نحن هنا أيها العالم".

انهارت دموعي تأثراً، وقلّبت بين القنوات لأستمع لمحطات خارجية متعددة تنقل ما يجري في دول العالم العربي والغربي من احتجاجات على المجازر التي يقوم بها الاحتلال الاسرائيلي في غزّة، تظاهرات في جميع دول العالم، العالم كله ينتفض، لم تبق دولة في العالم إلا انتفضت عبر تظاهرات تندد بحرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة المحاصر.

ينتابني بعض الرضا لهذه المواقف النبيلة، لكني أتمنى أن يغيّر هذا شيئًا، قلبت القنوات مرة أخرى، صوت لمذيعة لا أعرفها:

"جيش الدفاع الاسرائيلي قتَل اليوم أكثر من مائتي إرهابي فلسطيني و..."

شعرتُ بالغضب من كلمة إرهابي فلسطيني، وعدت أتذكر ذراع الطفلة الذي تعثرت بها، وأتساءل عن أي إرهابيين يتحدثون!

هل هناك أطفال إرهابيون يحملون دمىً وردية! ما الذي يغيّب عقول هؤلاء! أي إجرام هذا! 

عدتُ أشعر بدمائي تثور في أعماقي، وأنتبه أنها قناة إسرائيلية...

رباه! حتى إعلامهم عبارة عن إرهاب منظم وواضح ويتعارض متعمداً مع إعلام العالم كله...

تذكرتُ دموع الكهل الذي أوصلني بسيارته، ترى كيف يشعر إنسان فقد ابنته الوحيدة وأبناءها معها، ولم يستطع إيجاد جثثهم ربما لأنها تقطعت أو تطايرت بعيداً من ضغط الانفجارات أو لأنها تفحمت أو... أغمضت عينيّ وأنا أشعر بالغثيان، تركتُ الهاتف ودفنت وجهي بين كفيّ دقائق لأهدأ بينما أصوات الانفجارات حولنا لم تتوقف لحظة، فتحتُ عينيّ لتواجهني الإسوارة الوردية التي منحني إياها الكهل وهو يغادر.

أمسكتُ أمل قلمها وكتبت بحزن: فتاة تهوى صنع الأساور الوردية وتطعّمها بكلمات الحب، تحولت اليوم إلى أشلاء حتى إن والدها عجز عن معرفتها. ترى ما الفرق بينها وبين موهوبة تكتب عن الحب في مؤلفاتها، وتسوق للعالم فكرة الحب والإنسانية؟

أنا لديّ هواية جميلة أيضاً، وهي الكتابة لأجل الإنسانية، ويمكن أن أموت بنفس الطريقة. كلنا على نفس السفينة وكلنا معرضون للموت بنفس الطريقة.

هل ظنت طائرات الاحتلال أنّ لينا إرهابية!

هل تستحق لينا موتة كهذه! أم أن هؤلاء الإرهابيين إنما يشعرون بالسعادة أكثر كلما سفكوا المزيد من الدماء!

أمسكتُ هاتفي وعدت أحاول الاتصال بممدوح، الذي ردّ هذه المرة بأنه هرب من بيته في الشمال إلى منطقة تل الهوى مع عائلته وأنهم بخير.

قلت بفزع:

- لكنها منطقة خطيرة وتتعرض للأحزمة النارية طوال الوقت.

قال متأثراً:

- انهدمت أجزاء من البيت على رؤوسنا لكننا استطعنا النجاة، ونحن بخيرالآن.

عدتُ أطلب منه مغادرة المكان، لكنه قال لي إن الخروج إلى الشارع أكثر خطورة، وإن غزة كلها بكل مناطقها غير آمنة فأين سيذهب مثلاً؟ قال إنه سيبقى في مكانه حتى يهدأ هذا القصف الذي لا يتوقف، حينها قد يستطيع المغادرة. ساد صمت قصير ثم قال متلهفاً:

- حاولتُ الاتصال بكِ مراراً من دون جدوى. هل أنت والعائلة بخير؟

قلتُ له ألا يقلق فالجميع بخير، لكننا تفرقنا وأنا حالياً في بيت عمي...

وما إن أنهيتُ حديثي معه حتى فوجئت بنظرة عمي الغاضبة وهو يقول:

- لم أحب ركضك بهذه الطريقة من دون أن تردي على ندائي. الوضع خطير، ماذا كنتُ سأفعل لو أصابك مكروه؟ تعرفين أن المستشفيات بحالة رثة وخطيرة، أنت أمانة عندي لا يمكنك التصرف من رأسك...

كنت أعرف أني مخطئة وأقدر موقفه جيداً، فهو معه حق كونه شخصاً مسؤولاً أن يقلق. قلت بهدوء:

- أعتذر. أعترف أنّي أخطأت لكن ظننت أولادي...

قاطعني وهو يحاول أن يكتم غضبه:

- لا مبرر لك... الاطمئنان على أولادك لا يكون بهذه الطريقة.

عدتُ أقول متفهمة:

- أفهمك... أعرف ماذا يعني أن تكون شخصاً مسؤولاً في مثل هذه الظروف... ولو كنتُ مكانك فسأغضب.

رأيته يشيح بوجهه مغادراً فأخذت أفكر، تعودت التصرف بشكل مستقل في السنوات السابقة، طالما أنا في بيت عمي يجب أن أعوّد نفسي الآن أني لم أعد مستقلة، فصاحب البيت هو صاحب رأي يسبق رأيي حتماً، لأنه سيحمل المسؤولية أمام أي خطأ.

صورة البرج وهو ينهار، مناظر الأشلاء الآدمية والبيوت المدمرة، الدخان الأسود، كتبي، بيتي، ثم مرة أخرى صورة البرج وهو ينهار...

أتساءل: هل انتهت أسطورة الكاتبة والروائية والأديبة التي حلمت بها وحلم أبي لي بها أيضاً؟!

أراني في صورة طفلة صغيرة ترتمي في حضن والدها وتضحك وهو يحضنها ويرفعها في الهواء ضاحكة، شابة يافعة تقرأ على مسامع أبيها قصة أدبية قصيرة كتبتها لأول مرة: "ستصبحين كاتبة كبيرة".

كلمته وهو على فراش المرض:

"ليتني أستطيع أن أبقى حيّاً لأظل أرى نجاحك يا ابنتي".

هل انتهت الأديبة والروائية؟

* كاتبة من غزّة

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون