في روايته "الرجل الذي كان يحبُّ الكلاب"، يُقدّم الروائي الكوبي ليوناردو بادورا جرداً مُخيفاً لأسماء عدد من الكتّاب والمثقّفين الذين كانوا يصمتون عن إجراءات القمع التي طاولت حياة الآلاف من السياسيّين والكتّاب والمثقّفين الروس، كما تجاهلوا مُعسكرات الموت التي كانت تُقيمها سلطة ستالين، وذلك في مُواجهة العنف الذي كانت تقدّمه الإمبريالية ممثّلةً في وجهها الاستعماري، ثم في وجهَيها النازي والفاشي في ما بعد.
والسبب الذي قدّمه عددٌ منهم هو أنّ خطر النازية والفاشية كان أكبر وأكثر تهديداً للحياة الإنسانية، فاعتُبرت محاكمات موسكو خسائر هامشية عَرضية، وأحياناً ضرورية لحماية الاشتراكية.
كان هؤلاء قد تجرّدوا من كلّ حماية أخلاقية، وقد سخر منهم جورج أورويل، في كتابه "الحنين إلى كتالونيا"، حين شاهد بأُمّ عينه المذبحة المروّعة التي ارتكبها الشيوعيون التابعون لموسكو بحقّ الحركة التروتسكية، حيث قُتل في نكبة دموية واحدة أكثر من تسعة آلاف من حزب "البوم" التروتسكي. وقد اختُرعت من أجل تبرير ذلك كلمة لئيمة هي: "الثمن"، وبها تَمكَّن بعض المثقّفين من القول إنّ علينا أن ندفع ثمناً ما غالياً، من أجل تحقيق أهداف أعلى وأكثر قيمة.
وسوف تتوسّع دائرة القائلين بذلك مع اتّساع المشاريع الصغيرة والكبيرة، في عمليات غشّ كبرى يخترعها بعض الحكّام والزعماء السياسيّين، والدُّعاة، سُمّيت المشاريع منها مثلاً التنمية، الوحدة الوطنية، المقاومة. وقد ظلّت هذه العبارة حيّة حتى اليوم، ولا يزال يستخدمها استخداماً ذرائعياً المُقاولون والسماسرة وتجّار العقارات، ومهندسو تخطيط المُدن الذين يفكّرون في هدم الأحياء القديمة، ويزعمون أنّ ذلك هو ثمن التحديث.
ألا توجد بدائل لتحقيق الأهداف من دون تقديم "أثمان" مُدمّرة؟
في السنوات الأخيرة دافع عشرات المثقّفين العرب عن استخدام القوّة في قمع المظاهرات في تونس ومصر وسورية واليمن بحجة مقاومة الإرهاب. وفي المقابل، ثمّة من كان يُشجّع على دفع الثمن بالموت والسجن من أجل الحرّية أو الكرامة. وفي كلا الوجهَين بدا أنّ الهدف أغلى من البشر، عِلماً أنّه قد يكون قطعة أرض، أو نظام حُكم، أو فكرة، وهي مشكلة أخلاقية وسياسية وفكرية في الوقت نفسه. ولم تُناقَش حتى اليوم البدائل المُمكنة لتحقيق الأهداف، دون تقديم الأثمان المدمّرة التي ترى هذه الثقافة التبريرية ضرورتها.
تبدو كلمة الثمن الأكثر حضوراً في الذهنية العربية، واللافت أن تكون أحياناً لسان حال المظلومين الذين يرون أنّهم ضحايا وقرابين في مُواجهات الحياة التي يعيشونها، قد تصل إلى الموافقة على التضحية بالنفس من أجل فكرة أو حزب أو قضية، ومن بين ذلك تلك الشعارات التي أُطلقت من أجل انتصار الثورات العربية. "الموت ولا المذلّة"، ففي الحالتين كان الإنسان رخيصاً وبلا قيمة.
والغريب أن يكون الروائي الكيني نغوجي واثيونغو قد قال: "إنّ الكتّاب في كينيا وفي أفريقيا محكومون بأن يصرخوا في وجه الثقافات الاستعمارية... وأنّ عليهم أن يكونوا مُستعدّين لدفع الثمن. بالسجن، والنفي، وربما الموت؟"؛ إذ تبدو المعادلة التي يقدّمها غير مُنصفة هنا، والأثمان باهظةً ومُرعبة للغاية في الناتج لديه، وقد يُجادل المرء في صحّتها وفائدتها أخلاقياً وإنسانياً.
* روائي من سورية