تلتئم الحكايات في رأس الروائي. يعيدُ تشبيك قصصٍ تجيء من الإلهام أو من التجربة ليصنع من القصص العديدة نصّاً واحداً متماسكاً. لكن من أين تجيءُ الحكايات؟ كيف تعمل مخيّلة الكاتب، أيكتفي بما عاشَ وشهد، مثلهُ مثل جدٍّ يجمع أحفاده إلى جوارهِ ويروي لهم حياتهُ، أم أنّ الروائيَّ، مهما بدا واقعيّاً، فهو يروي تلك القصص التي يُحضِرها من عالمٍ مجهول، من عالم يختلط فيه المستقبل مع الماضي، ليَروي ما لم يُكتَب له أن يحدث في الواقع؟
في مناسبة أدبيّة، يُعرّف الروائيّ الألمانيّ غونتر غراس (1927 - 2015) بنفسهِ: "من الذي يتكلم؟ روائيّ. ومن يُخاطِب؟ من ظلّوا أحياءَ من أبناء جيله". تشيرُ هذه الكلمات القليلة إلى مُحفِّزات الروائيّ. ويمكن لنا الاستنتاج، بمعرفتنا أنّ الكاتب الذي قاتلَ وأُسِر في الحرب العالميّة الثانية كانت تلكَ الحرب في حياتهِ وأبناء جيلهِ هي واحدةٌ من محفّزاتهِ، فقد قتلت الحرب أصدقاء طفولتهِ. ويضمرُ تعريفهُ بنفسهِ؛ أنّه كان يكتب عن أولئك الذين ماتوا. فمن بين الـ 38 تلميذاً في مدرسته، بقي 12 تلميذاً فقط أحياء. بيد أنّ الخسارات التي يعرفها الروائيّ في حياتهِ أو يشهدها في زمنه، تستمرُ بالعيش من خلال أدبه.
بهذه الطريقة يمكن أن نفهم حديث روائيّين بأنّهم صوت الذين لا صوتَ لهم، لا أقصد البطولات التي يتصدّى لها أحدهم، هنا أو هناك في أزمنتنا الراهنة. إنّما أقصد بالفعل، الحديثَ عن أناسٍ غائبين، بُترت حيواتهم. فالروائيّ يُلزِم ذاتهُ بأن يشهد على ما لم يحدث أمامهُ، على ما لم يحدث البتّة، غير أنّه كان مقرَّراً له الحدوث وفق احتمالٍ غَيّبَهُ عسف البشر وجوُرُهم.
الروائي مدينٌ لحكايات الغائبين، يُذكّرُ من حضر بمن غاب
إنّ واحداً من الهموم التي تصنع موضوعات الكاتب؛ فقدهُ لأناسٍ عرفهم وأحبّهم، إلى جانب طرائق الفقدان. فإذا كانت الحرب حدثاً يلغي حياةَ الناس، فإنّها تصنعُ ذخيرة الروائيّ الذي عاشها. لكن هل هي ذخيرة واقعيّة؟ جرّاء أحداثٍ قد وقعت فعلاً؟ يُشعرنا غراس، من خلال تعريفٍ عابر، أنّها ذخيرة تخيّلية غير أنّها مؤسَّسة على ما كان ينبغي للمشهد أن يكونه. فإذا كانت الحرب تُنهي حياة رجلٍ بطلقةٍ في الرأس عبر تلفيق قدريّ، فالكاتب يفرض على نفسهِ، ما يفرضهُ الشرط الفنّي، أي أن يبني مصير الرَّجُل المتوفَّى، والموت الذي يُلِمّ بالفرد قد يشاركُ في حيوات شخصيّات عديدة من خلال رسم مصيرهِ ضمن مصير الجماعة أو العائلة. يأخذ غراس جانب الموتى، وهو إذ يأخذ جانبهم فإنّه يأخذ جانب الغياب والنقص، والمواقف التي لم تؤخذ في أوانها، والأحداث التي لم يُقَدَّر لها أن تُصنَع.
لطالما اعتُبر النقص مساحةَ الفنون الأثيرة، ونجد الكتّاب المؤثّرين في الأدب يختارون موضوعاتٍ إنسانيّة يفتقدها الناس؛ يكتبون عن العدالة في عالم لا عدالة فيهِ، عن الحريّة في عالم مليء بالقيود، يكتبون عن الموتى والمساجين ومحرومي العاطفة، المنبوذين والمهزومين، ويكتبون عن أولئك الذين هُدِرَتْ حيواتهم في حروب بغير طائل، لا كي يؤلِّفوا الحكايات، فعالم الأحياء مليءٌ بها، ولا كي يعاندوا الطبيعة التي تأتلف مع النهايات مثلما تأتلف مع البدايات. وإنّما كي يكملوا المشهد الذي تدخّل فيهِ الإنسان عنوةً، وأشاع فيهِ الخراب والخسارات.
بذلك يمكن أن نقرأ في تعريف غراس لنفسهِ، وهو يواجه الطلّاب الـ12 ليُذَكّرهم بالطلاب الـ 26 الذين لم يُكتَب لهم أن يعيشوا أعمارهم، وصولاً إلى تلك اللحظة التي سيقف فيها زميلهم أمام الملأ للاحتفاء بنجاحهِ. يمكن أن نقرأ دوراً للروائي بأنّه مدينٌ لحكايات الغائبين وأنّه يُذَكّرُ من حَضر بمن غاب وبأسباب الغياب وآثاره.
* كاتب من سورية