رحيل سمير أبي راشد: عن دائرة ضيّقها النقّاد حوله

09 ديسمبر 2021
سمير أبي راشد في بورتريه ذاتي
+ الخط -

رحيل الفنان اللبناني سمير أبي راشد، قبل أيام، عن أربعة وسبعين عاماً (1947 ــ 2021)، يضع نهاية لفنّان إشكالي. إشكالية سمير أبي راشد نتجت عن أنه من الفنانين العرب القلائل الذين انتسبوا إلى السريالية. من الواضع أننا لا نجد رعيلاً عربياً سريالياً. قد تكون السريالية طاولت الشعر العربي؛ لم ينكر أنسي الحاج ولا شوقي أبي شقرا، الشاعران اللبنانيان، نسبةً ما إلى السريالية، بل إن أنسي تبنّى جهاراً أندريه بروتون وأنتونان آرتو. لن يكونا وحدهما الشاعرين القريبين من السريالية في الشعر العربي، إلّا أننا لا نجد بالوضوح نفسه فنانين تشكيليين عرباً ينتسبون علانيةً إلى السريالية. قد يكون سمير أبي راشد من العرب القلائل الذين دُمغوا بالسريالية وعوملوا، وعُرفوا، على هذا الأساس.

لم يكن سمير أبي راشد من هؤلاء السرياليين القلائل في التصوير العربي فحسب، بل إن هذه الدمغة وصَمَتْه وأغنت تقريباً عن متابعته. كأن اكتشاف هذا النسب السريالي كان كافياً لمعرفة الرسّام، بل كان نهائياً. كأن هذه النسبة كانت بحدّ ذاتها تعريفاً ختامياً بالرسّام وفنه. كان النقد التشكيلي في ذلك يبحث فقط عن هذا العنوان، يكفيه فقط أن يجد عائلة الفنان التشكيلية ومدرسته ليتوقّف هنا، وينتهي بحثه. كان المهمّ فقط أن نجد نسَباً غربياً للفنان، والأرجح أن سمير أبي راشد لم يكن الوحيد الذي عومل على هذا النحو. فرسالة الناقد لم تكن، في أحيان كثيرة، سوى ذلك، سوى تصنيف الفنان وردّه إلى مدرسة أو تيّار أو فنان في الغرب.

(لوحة "الحقيقة في الشوك" لسمير أبي راشد)
(لوحة "الحقيقة في الشوك" لسمير أبي راشد)

نقّاد سمير أبي رشاد لم يصنّفوه سريالياً فحسب، بل ردّوه فوراً إلى عَلَم سريالي هو سلفادور دالي. اعتبروا أبي راشد سلفادور دالي عربياً أو لبنانياً. تم ذلك بتلقائية تشبه الارتجال، كأنْ لم يكن أبي راشد السريالي الوحيد، بل كان دالي نفسه العلم الوحيد والأب الوحيد. هكذا وُصم أبي راشد بالشبَه بدالي، وتأثّره به، والنسج على منواله. هذا كان بحد ذاته تقديماً مناسباً لأبي راشد، لكنّه صار الخاتمة. لقد أقفل الطريق على دراسة فن الرجل والتعرّف إلى ميزاته وأسلوبه.

أبي راشد سريالي، لم ينكر الفنان ذلك ولم ينكره نقّاده. أكان ذلك كلّ ما ينبغي أن نعرفه عن الفنان، هل تقف المسألة هنا، ثم ما هذه النسبة إلى دالي، هل هي أيضاً مرتجلة؟ يمكننا أن نراجع فن الرجل، وربما يحسن بنا أن نراجع سرياليته ونسبته إلى دالي. سمير أبي راشد، كما صرّح لمحاوريه، لم يرضَ بهذه النسبة. قال إنه يحبّ دالي، لكنه لم يتأثّر به، ولم يقلّده.

(لوحة "طريق السماء" لسمير أبي راشد)
(لوحة "طريق السماء" لسمير أبي راشد)

يمكننا الآن أن نعاين ذلك وأن نمحّصه. علينا، بادئ بدءٍ أن نتحقّق من موضع أبي راشد في السريالية. ينضمّ أبي راشد إلى تيّار في السريالية يشمل أيضاً دالي، لكنّه إلى دالي يضمّ آخرين، نسمّي منهم دلفو وربما تانغي وماغريت وقبلهم كيريكو.

هذا التيار هو تيار رسّامي الأحلام، إنه تيّار لا يذهب إلى التجريد ولا إلى التلطيخ التعبيري. هو بالدرجة الأولى أقرب إلى الكلاسيكية أو الواقعية. نفهم من هذا إعجاب دالي بالكلاسيكيين: فيرمير ورامبرانت على وجه الخصوص. من هنا نفهم أيضاً المتانة الكلاسيكية لفنّ دالي والواقعية، شبه التصويرية لفنّ ماغريت، والغموض شبه الرمزي لفن دلفو.

أبي راشد هو، إذاً، بحسب فنّه، من رسّامي الأحلام، ومع رسم الأحلام هناك هذا التركيب اللاواعي للحلم. في لوحات أبي راشد هناك هذا التركيب من عناصر شتّى في الزمان والمكان الذي يشكّل لوحته. غير أن هذا، كما هو عند رسّامي الأحلام، يرجع إلى الخيال، بل إلى الاستدعاءات غير المتواقتة وغير المنتظمة، التي تحضر من التاريخ والواقع واللاوعي. الصور المستدعاة مرسومة بدقّة ومهارة كلاسيكيّتَيْن أو واقعيتين، وهذا ما يجعل من دالي في نظر كثيرين فنّاناً غريباً في خياله وموضوعاته واستدعاءاته، لا في أسلوبه أو ملوّنته وخطوطه، التي يكاد يكون كلاسيكياً فيها.

أبي راشد هو كذلك، لكنّنا لا ننجح في ردّه إلى دالي. قد يكون أصوبَ، أو قد يكون أكثر ملاءمة، أن نردّه إلى دلفو أو ماكس إرنست. عاريات أبي راشد لهنّ من الغموض والسحريّة ما يمكن أن يذكّر بنساء دلفو، كما أن تركيب الأشياء وركمها فوق بعضها بعضاً قد يذكّر، قليلاً أو كثيراً، بلوحات ماكس إرنست. بيد أنّنا هنا لا نشتبه بالتقليد أو النسخ، فلوحة أبي راشد، حتى حين لا نحبّها، ليست كذلك، بل قد تردّنا هذه اللوحات بملوّنتها الأثيرية وغموضها إلى الرمزية، بقدر ما يمكن أن تعود إلى السريالية.

رحل أبي راشد من دون أن يكون فنه قد لقي اهتماماً كافياً. لقد اكتفى النقّاد بسرياليته وداليّته، وعسى أنّ مستقبله لا يلزم هذا التجاهل أو الإنكار الضمنيّ...


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون