تبدأ روايتا سومر شحادة "الهجران" (2019، دار "التنوير") و"منازل الأمس" (2023، دار "الكرمة") بحادث أقرب إلى الاختفاء. في الرواية الأولى، نبدأ بمقتل توفيق، السجين، في سجنه. لقد كان صريحاً وواضحاً ويسارياً، بدون أن ينتمي إلى حزب أو مجموعة. لكنّ الرواية تُستَهَلّ باختفائه، تاركاً امرأة حُبلى وابناً لم يعرفه. تبدأ رواية "منازل الأمس" هي الأخرى باختفاء من نوع آخر. لقد هَجرت وداد منزلها، هي التي تزوّجت زواجَ حُبٍّ. هكذا فارقت زوجها وابنتها، ولن يسعى زوجها في إثْرها، وسيعاني طوال حياته هذا الهجر، لكنّه سيرتضي به، ولن يحاكمه أو يقطع في أمره.
روايتا سومر شحادة تبدآن من واقعتين متقاربتين. تبدآن من عالم يختفي، من غياب دامغ يخيّم على النصّ كلّه. لا أدري لماذا هذه البداية، لكنّي أتوجّس من أن لها صلة بالحرب الدائرة في سورية اليوم. ثمة في الروايتين عالمٌ انتهى بقدر من العسف، بقدر من الغُربة، وترك بعده عالماً لا نجزم بأنه اختلف تماماً عنه. بل ثمّة ما يجعلنا نحدس أنه لن يكون إلّا ترجيعاً واستعادة له. لن تكون نسرين، الابنة التي خلّفتها وداد، المغادرة، شخصاً آخر، ولن تكون لها، في العمق، حكايةٌ أخرى. هكذا، لن ينقلب الحاضرُ على الأمس، ولن يتضادّ معه، ولن يبشّر بمستقبل آخر. قد يحمل هذا في داخله رأياً بالثورة السورية، قد يكون موقفاً من الانتفاضة كلّها. مقاربةٌ كهذه تأتي من خارج الرواية، بالطبع، لكنها قد تنطبق أيضاً عليها.
تشترك "الهجران" و"منازل الأمس" في تصويرهما مرحلةً تتداعى
إذا كانت وداد هجرت بيتها، فلسبب لا تصرّح به، ولا يرِد مباشرة في الرواية. لكنّنا لا نفهم بسهولة لماذا أراد سليم أن يبقى مع الزوجة التي أحبَّ، في بيت العائلة، حيث تتعرّض لجفاء أهله وعنف أخيه. لا نفهم ما الذي جعله يرضى بذلك، ولا يُبالي باحتجاج زوجته ومعاناتها. لا نفهم ذلك لأن النصّ لا يجزم فيه، ولا يردّ الأمور إليه. لا يجزم النصّ، ربما لأنه لا يريد أن يقف هنا. ولا يريد حقّاً هذا التفسير وذلك التبرير.
إذا عدنا إلى الحقبة الراهنة، إلى الحرب الدائرة في سورية، أمكنَنا أن نرى أن العسف العائلي، وانقلاب الموازين في البيت العائلي، قد يكونان رجعاً وظلّاً لتاريخ كامل. قد يكونان سورية الأمس، وليسا مجرّد تفصيل أو حكاية عائلية. يمكننا كذلك أن نفهم كيف أن نسرين، ابنة وداد المُغادرة، لا تنقم على أمها، كذلك هو زوجها الذي هجرته لا ينقم عليها. لكنّ نسرين هذه، مثلها كمثل أمها، تتزوّج كارم عن حُبّ. لن ينقلها كارم إلى بيت عائلي، ولن تتعرّض لعسف من أي نوع. إنها معه في الإمارات، في دبي، لكنّها في حياتها الجديدة هذه تُعيد سيرة أمها التي آثرت زوجَها على طُلّاب ودّها، بل على عائلتها التي لم ترضَ به.
ثمة في الروايتين حيواتٌ تنتهي بقدرٍ من العسف والغُربة
إنه زواجُ حُبٍّ، لكننا هذه المرّة، كما في المرّة السابقة، لا نتأكّد ممّا يطرأ على العلاقة، وما يتسلّل إليها. مرّةً ثانية، نجد إشارة لا نتيقّن منها؛ إنها برودة نسرين الجنسية، التي لا يقطع الروائي بها، ولا يقف تماماً عندها. كما حدث للأب والأم من قبل، وأدّى، من دون أن نتيقّن من الأسباب، إلى مغادرة الأم. ها نحن غير واثقين من السبب، ولو جرت الإشارة إليه. هل برودة الزوجة هي ما حمل الزوج على أن يدخل في علاقات أخرى؟ لا يجزم النص بذلك، لكنه لا يذكر سبباً آخر يجعل نسرين تفارق البيت الزوجي إلى سورية مراراً، لتقضي أوقاتاً طويلة مع أبيها، قبل أن تقرّر، مثلها كمثل أمها، أن تفارق كارم، زوجها، نهائياً.
بين الزوجين أكثر من فارق. الزوجة أمينةٌ لا لسورية وحدها، ولا لأبيها فحسب: إنها أمانة تدفعها لأن تهجر زوجها ومعه ابنتاها، أمانة قد لا تكون لشخص أو موضع، بقدر ما هي أمانة لبلد ولماضٍ لم تستطع أن تنقلب عليه، أو أن تغيّره. هل نجد في هذا رجْع الثورة السورية التي تحوّلت، كما تحوّل الزوج، إلى دائرة علاقات ومصالح خاصّة وزيف من كلّ نوع؟ هل يمكن أن نجد في ذلك كله استعادة بالحكاية لتاريخ سورية الحديث والراهن؟
في عودتنا إلى "الهجران"، الرواية التي سبقت "منازل الأمس"، نعثر على البداية نفسها. توفيق، الذي يموت في سجنه تاركاً في رحم عزيزة، زوجته، طفلاً نشأ يتيماً، ومعه أمارات اليتم، الخجل والقلق. زياد هو صنو نسرين، كلاهما يعود إلى سورية مثاليةٍ، سورية الأمانة والإحساس والنزاهة، سورية الأصالة. يُشغف زياد بجوري، التي يغويها فنّان ستّيني نال شهرةً في الغرب. لكنّ عادل، مثله مثل كارم، لا يهمُّه سوى النجاح الشخصي. نحن هنا أيضاً في عالم تسوده الأثرة والمصلحة. لن تستمرّ جوري مع عادل؛ إنه خيبتها في تحوّل زائف سطحي. لا نعرف تماماً صلة ذلك بالغرب، لكنْ له صلة، بالتأكيد، بتحوُّل كولونيالي لا يقوم على أي أساس أو أصل. إنه خيبتنا بالنظام، ولكنّه أيضاً خيبتنا بالمستقبل، خيبتنا بالنظام والثورة في آن معاً.
* شاعر وروائي من لبنان