عن مُعَزٍّ اسمُه محمود درويش

15 اغسطس 2022
محمود درويش، باريس 24 شباط/ فبراير 1994 (أولف أندرسن/Getty)
+ الخط -

في مجموعاته الأخيرة تراجع الموضوع الفلسطيني وغدا ضمنياً أو ضامراً في النسيج الشعري، لكن محمود درويش (مرّت قبل أيام ذكرى أربعة عشر عاماً على رحيله) استطاع أن يؤسّس "زعامة" شعرية لا تتبع جمهورها بل توجّهه. ظلّ بهذا الموضوع وبدونه رمزاً للصراع الفلسطيني، والأرجح أن غيابه تكفّل أكثر بتوطيد رمزيته فيما يأكل الصراع رموزاً كثيرة وأدّى إلى كسوفها. يحتاج الشعب الفلسطيني الآن أكثر فأكثر إلى رمزٍ كمحمود درويش، إلى شاعر لا إلى سياسي. 

السياسة في الانقسام والانسداد والاجترار والانتكاس الحالي، لا تفعل سوى دهورة التاريخ الفلسطيني وشرشحته وابتذاله، فيما يبدو في المثال الدرويشي على مستوى آخر هو مستوى المأساة الإغريقية والصراع الأنطولوجي والأسطورة الحديثة والسؤال الإشكالي.

رحل محمود درويش قبل تفاقُم مأساة غزّة وقبل احتداد الصراع بين الإخوة الأعداء، أحداث كهذه لم تغطِّ على ذكرى محمود درويش بل أضاءتها. الأرجح أنها استعارت رغم كل الاعتدادات، صوت محمود درويش الرثائي الذي يُغني المهزومين والمعارك الخاسرة. صوت محمود درويش الذي يحمل عذابات الهوية ومفارقاتها والصراع شبه اليائس على الذاكرة وتيجان الخسارة والصمود والمصائر السيزيفية، فيما كانت فلسطين تتحوَّل على أيدي السياسيين المتكالبين إلى لعبة، وإلى تجارة يومية ظلّت في شعر درويش رمزاً. فلسطين الشتات الأوديسي والهجرات، والهوية الدامية والمصائر التراجيدية، بقيت في شعر محمود. إنها القصيدة لا المناكفات وفيها سيجد عشرات ألوف بل مئات ألوف الشهداء والمغلوبين والثكالى والأيتام، بل الأماكن المسروقة والأشجار المقتلعة، كلّ هؤلاء سيجدون ذاكرة ومكاناً فيها.

ينتصر الثقافي على السياسي في الظرف الفلسطيني ويغلب الشعر السياسة. السياسة في تدهورها تعجز عن الإحاطة بالواقع الفلسطيني وتمثّل تاريخه، فهي الآن بلا تاريخ بقدر ما هي بعيدة عن الواقع. لكنّ الشعر يستطيع أن يحمل تاريخاً وأن يردّد من جديد النبض الحقيقي للواقع، الشاعر المُقيم على التلّة يستطيع من وراء القبر أن يمنح هذا الشعب روحاً فيما يتناهب السياسيُّون أشلاءه.

يجد الفلسطيني اليوم حكايته في الشعر لا في السياسة

كان المفترض مع رحيل الشاعر أن يبدأ الفصل الصعب ما بين محمود درويش والصراع الفلسطيني، أن نتمكّن من قراءة محمود درويش بدون الفضاء الفلسطيني الذي يشكِّل صفحة أُخرى ونصّاً أوسع. كان مُهمّاً تخليص هذا الشعر من ظرفه وملابساته وقراءته شعراً فحسب. لا أعرف إذا كان هذا ممكناً لأي شاعر لكن في حال محمود درويش لا بد أن يتأجل وربما أعواما أخرى. هذا الشعر لا يزال يتفاعل في الظرف والصراع بل يبدو أنه يغدو مع الوقت، أكثر دينامية. 

شعر محمود درويش لا يتأثّر بغيابه ما دام كلُّه يتحدّث عن غائب ومفقود وخسارة محمولة على الأعناق وعودة بلا طريق. ينضاف شعر إلى الفقدان الفلسطيني ويغدو جزءاً من الغياب ومن الخسارة. وفي الصراع الفلسطيني يتساكن الموتى والأحياء ولا يبدو الأحياء في كثيرٍ من الأحوال أكثر حياة من الموتى. هكذا يمكنُ لساكن التلّة أن يكون فاعلاً وحاضراً أكثر بكثير من أحياء لا يحملون على مناكبهم التاريخ ولا الحاضر.

يخدم شعر محمود درويش كجندي لكنّه يخدم أكثر كمُعزٍّ، إنّه يقدم لقارئه أكثر من الشعر، شيئاً من التعاطُف والتطهير، معنى للخسارة والتضحية والفقدان. ويقدّم له رغم كلّ شيء ومن داخل الألم نفسه إيجاباً، ونوعاً من الرجاء. هذه المساكنة مع الموتى والضحايا ومع الذاكرة والتيه "الأوليسي" تحوّلت بفعل الشعر إلى حاجة وإلى حقيقة، إلى نوع من الحياة. سرت سريان الأغنية حاملةً نوعاً من الوعد وأسلوب حياة.

كان شعر درويش في تواليه يفعلُ ما لم يستطعه المؤرّخون (إن وُجدوا)، يلملم الشتات الفلسطيني المبعثر المتشظّي في الزمان والمكان، يُضيفه جزءاً إلى جزء وصورة إلى صورة، يرصُّه على جَذع الذاكرة التي وحدها سَلمت تقريباً. على هذا الجذع يضعُ الدائرة الأولى وتتوالى الدوائر صانعةً ما يُشبه الحكاية. مع البُعد ومع الشتات القادم والأفق المسدود تعدو الحكايةُ حاجة بل تطلُّباً، يحتاج الفلسطيني اليوم إلى هذه الحكاية ويجدُها في الشعر لا في السياسة.


* شاعر وروائي من لبنان

المساهمون