حين كان الحَراك الشعبي يتصاعد بمختلف تفاعلاته السياسية والشعبية ضمن مخاض سياسي كبير، كان هناك مخاض آخر لعدد من الكتّاب والصحافيين الذين تحفّزوا مبكراً للكتابة والتوثيق وتدوين مشاهد الحراك وتعبيراته السياسية وتقديم قراءات وتفسيرات لما يحدث. لم تمض الأشهر الأولى، حتى بدأت المكتبات باستقبال مجموعةٍ مِن المؤلَّفات التي رصدت مختلف الجوانب السياسية والاجتماعية والتعبيرات الثقافية للحراك السلمي.
بدا أنَّ "النُّخب" الجزائرية سعت إلى تجنُّب الخطأ الذي ارتكبَته خلال انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 1988، حين تأخَّرَت كثيراً في التأريخ والكتابة عن تلك الانتفاضة الشعبية التي دفعت السلطة السياسية إلى إقرار جملةٍ مِن الإصلاحات السياسية؛ أبرزُها فتح باب التعدُّدية السياسية والإعلامية.
هكذا، راح كتّاب جزائريون يلتقطون، هذه المرّة، تلك اللحظة السياسية ويُوثّقون للحَراك في حينه. ومِن جملة الكُتب التي صدرت خلال تلك الفترة: "يوميات الحراك.. نحو تحرير الجزائر من النظام الدكتاتوري" للشاعر عمر أزراج، و"في ظلال الحراك الشعبي" للباحث محمد أرزقي فرّاد، و"الحراك الشعبي الجزائري: النسخة المنقَّحة من ثورات الربيع العربي" للباحث في علم الاجتماع نور الدين بكّيس، و"ربيع الغضب" لمحيي الدين عميمور، و"السنة الأولى من الحراك" لنور الدين قريم، و"مِن قلب الحراك" للتهامي مجوري، و"ثورة 22 فبراير: مِن الاحتجاج إلى سقوط بوتفليقة" لمهدي بوخالفة.
رصدت الكتب جوانب سياسية واجتماعية وثقافية من الحراك
وإن كانت الجوانب التوثيقية والانطباعية والاحتفائية قد طغت على تلك الإصدارات، فإنَّ كُتباً أُخرى ذهبت في اتجاه معاكِس؛ حيث حاول أصحابُها التشكيك في مسار الحراك الشعبي وإحاطة رموزه بأسئلةٍ تربطها بمنظّماتٍ أجنبية، في سياق نظرية المؤامرة التي تتبنّاها السلطة، ومفادُها وجود محاولة اختراق أجنبية للثورة الشعبية. في هذا السياق، يُمكن الإشارة إلى كتاب "مَن هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم قادةً للحراك الجزائري؟"، ومؤلّفه كاتبٌ جزائري مقيم في كندا يُدعى أحمد سعادة، وقد سلّط الضوء، في هذا الكتاب، على بعض الوجوه المعروفة في الحراك، مُشكِّكاً في خطاباتها وتوجُّهاتها السياسية.
ولم تتوقّف الكتب التي تناولت الحراك عن الصدور بعد مرور سنتَين على انطلاقه؛ فمؤخرّاً صدرت مجموعةٌ أُخرى مِن الأعمال التي يبدو أنَّ أصحابها فضّلوا أخذ مسافةٍ زمنية مِن الأحداث، وإنْ كانت ما تعيشه الساحة السياسية الجزائرية اليوم يقع، بشكلٍ أو بآخر، ضمن ارتدادات الثورة الشعبية التي انطلقت في شباط/ فبراير 2019. مِن ذلك كتاب "من قلب الحراك" لفرحات زايت، و"رياح الحراك" لخليل بن الدين، و"مسيرة شعب" لمهدي بوخالفة، و"صحيفة الحراك: الهبّة الجزائرية" لعبد القادر حريشان.
ويُحصي الباحث أحمد بن يغرز، في دراسة له، صدور قرابة سبعين كتاباً عن الحراك الشعبي تتراوح بين التحاليل والانطباعات ورصد يوميات الثورة الشعبية.
في حديثه إلى "العربي الجديد"، يقول حريشان، وهو كاتبٌ متخصّصٌ في الشأن السياسي، إنّه بدأ برصد الأحداث السياسية وتدوينها قبل بداية الحراك؛ حيث كان هناك مناخٌ مِن التوتُّر والاحتقان السياسي والشعبي: "كنتُ أنتظر الشرارة، خصوصاً بعد تجمُّع أحزاب المولاة لترشيح عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة في التاسع مِن شباط/ فبراير 2019. وحين انطلق الحراك، رحتُ أرصد وأتابِع كلّ التفاصيل والتعبيرات السياسية والمواقف حتى أتمكّن مِن تقديم نصّ متكامِل يُسهم في التوثيق لهذه المرحلة".
كتابة متعجّلة تجنح إلى الانطباعية أكثر من التقصّي
يَعتبر المتحدِّث أنّ الكتب التي صدرت عن الحراك الشعبي، وإن كانت تُعبّر عن قناعات أصحابها، فهي تُوثّق للحدث التاريخي، مُضيفاً في هذا السياق: "ننتظر أن تصدر كتب أُخرى تعالج الموضوع مِن جميع الجوانب".
أمّا الصحافي محمد علال، الذي أصدر بدوره كتاباً عن الحراك بعنوان "الزنزانة الخامسة لبوتفليقة"، فيُجيب عن سؤال طرحته "العربي الجديد" حول تفسير صدور هذا الكمّ الكبير من الكتب حول الحراك الشعبي؛ قائلاً: "لا شكّ أنّ الكتاب هو أقوى وسيلة لتسجيل التاريخ. والمؤكَّد أنَّ الحراك يستحقُّ قراءةً عميقة في علاقته بفساد وأزمة النظام الجزائري منذ الاستقلال"، مُضيفاً: "مِن جهتي، لم أكتب إلّا لتأكيد موقفٍ شخصي من حراك لا يمكن تجاهله".
لكن، هل يكفي ما صدر إلى الآن للتأريخ لما حدث ويحدث؟ يجيب الكاتب بوعلام رمضاني، الذي نشر كتاباً بعنوان "يوميات صحفي في الحراك"، بالنفي؛ لكون "أغلب ما كُتب مجرّد آراء وانطباعات وحكايات وسرد للأحداث من زوايا مختلفة بغية توثيق تلك اللحظة، بينما تحتاج القراءة السياسية المفصّلة إلى وقت".
مع ذلك، يَعتبر رمضاني أنّ مِثل هذه الكتب مهمّة في كتابة التاريخ؛ حيث ستكون ضمن الوثائق التي سيعتمد عليها المؤرّخون لاحقاً لكتابة تاريخ الحراك وفهم أحداثه، مُضيفاً: "شخصياً، اخترتُ الحكي وتقديم شهادة عن الحراك كما عشته وفهمته كصحافي ومتابع للمشهد السياسي في الجزائر، من خلال تفسير الدوافع التي أدّت إلى لحظة انطلاق الحراك التي كانت أشبه بكسر لجدار الصمت والخوف".
ورغم الانتقادات التي وُجّهت إلى تلك الكتب، على اعتبار أنّها تندرج ضمن "الكتابة الاستعجالية" التي تجنح إلى الانطباعية أكثر من التقصّي، فإنّ من الواضح أنّ الكتّاب والصحافيّين خرجوا سريعاً من لحظة الدهشة وتمكّنوا من الإفلات من طوفان الأحداث وتداعياتها المتسارعة في غضون السنتين الماضيتين، على عكس ما حدث في انتفاضة 1988 و"الربيع الأمازيغي" عام 1980.
يُفسِّر رمضاني هذا التمايز لصالح الكتابة عن الحراك مقارنةً مع انتفاضات سابقة بسهولة النشر وتقلُّص هامش الرقابة مقارنةً مع السابق، إضافةً إلى طبيعة الحراك التي يقول إنها تختلف عن أحداث تشرين الأوّل/ أكتوبر 1988 مثلاً، سواء مِن ناحية الأسباب أو الأهداف أو النتائج، موضِّحاً: "أتى الحراك كانتفاضة على محاولة التمديد لرئيس مريض مع الطالبة بتغيير شامل للنظام، وقد رحل بوتفليقة من دون أن تسيل قطرة دم واحدة، أمّا أحداث أكتوبر، فقد خلّفت أكثر من 500 قتيل، وسرعان ما دخلت البلاد في أزمة أمنية دامية". ويختتم بالقول: "عندما يرتبط الأمر بالدم، تُصبح مسألة الكتابة أكثر تعقيداً".