أعرف تلك الاستعدادات التي يحتاجها أيّ شخص ليودّع أحداً ما. أعرفها وأفهم جيّداً أنَّ الحياة وداعات متكرّرة، وأعرف مِنْ أيّ نوع مِنَ النساء هي حليفتي. أسمّيها "حليفتي" لأنّي أرى الحياة على أنّها حرب مستمرّة وأن مَنْ يُحبّك يعني أنه يحالفك في تلك الحرب.
وحليفتي فائقة الجمال تملك وجهاً ريفياً وعينين واسعتين حادّتي النظرات تتوسّطان وجهاً مصقولاً، وأعتقد أنَّ ذلك كلُّ ما طلبته في مراهقتي: "عينان واسعتان ووجه مشدود".
لا أذكر بالضبط كيف تعرّفتُ إليها، لكن ما أذكُره أنها دخلت حياتي ومَلأتها بسرعة. وللصدفة، في اليوم الأول الذي طَرقت فيه بابي، كنتُ للتوّ قد فكّرتُ بأن أتحالف معها، ولم يحدث شيءٌ خارق في ذلك اليوم، غير أننا رقصنا وسمعنا الأغاني وقبّلنا بعضنا ثلاثاً وسبعين مرّة أو تسع وسبعين، ثم سرعان ما غادرت، وقد تَركت لي "مزامنة" لحسابها على "واتساب" لتتركني أتتبعُ أثرها.
وصَلَت للمطار وصرتُ أراقب مواعيد الرحلات وأخمّن على متن أيّة طائرة ستكون. تَعَمّدتْ كلّ ذلك، تركتني أُلاحقها بقلبي وعقلي. وعندما عادت بعد أسبوع، استقبلتها بوابل من القبل، ومن المؤسف أنه قد فاتني أنْ أعدَّ تلك القُبَل.
وصَلَتُ للمطار وصرتُ أراقب مواعيد الرحلات وأُخمّن
لم نتحدّث كثيراً عمّن تكون هي أو مَن أكون أنا أو كيف سيكون العالم. كنّا نرغب في اختزان طاقة الحبّ هذه دون أن نلوّثها بالروتين. بقينا هكذا سبعة أشهر، يتحاشى أحدنا الآخر. لم ننزلق إلى حوار طويل أو نقاش عمّا سنفعل أو يُفعل بنا، ظَللنا مُحتاطين من أن نسقط في رغبة المعرفة.
أنا أجهلُ من تكون، وأقول عنها صاحبة العين الواسعة فحسب، وهي ربما تجهل شيئاً واحداً عني؛ أنني أتعذب الآن لفراقها.
صحوتُ صباح يوم الأحد. لم أكن قد انتبهت إلى أنها ذهبت. ثيابها موجودة، حقائبها، عطورها وحتى غطاؤها الذي تحبّه. كانت قد طلبت في أول يوم أن تنام في الغرفة وحدها، وشدّدت على أن تقفلها بالمفتاح من الداخل. تركتُ لها ذلك، جلستُ على الكنبة. كنت أضع كتاباً في يدي وأُلقّن نفسي: "يومٌ عادي ولن يحدث شيء، يوم عادي ولن يحدث شيء".
إلّا أنني لم أمسك بكلمة واحدة من الكتاب، لم أكن أتحسّس وجوده، حتى يدي التي تحمله ــ كأنها عصا أو مسند ــ نسيتُها تماماً، كنت أُفكّر وأسأل نفسي مراراً هل ستتركني وحيداً هنا؟
سمعتُ صوت المفتاح وهو يدور في القفل، تنبّهت لكتابي وصرت أستعيد يدي من جديد، وقرّرتُ أن أظلّ منشغلاً بما في يدي. فجأةً تحسّستُ وجودها قربي، أزاحتني إلى طرف الكنبة وتوسّدت بقربي، بعد أن سحبت السيجارة من يدي وأبعدت المنفضة عنّي.
تهادت بثوبها الأسود المطرّز بالزهر وتمايلت كأنها تُعشّق جسدها بجسدي. الفستان قصير جداً؛ أظنّه أقصر من عمري. تلحّفتْ بغطائها الأبيض (نَفْس الغطاء الذي أضمّه الآن إلى صدري) وهمست لي أنِ اقتربْ أكثر.
ما يصعب عليّ فهمه أنني إلى الآن لا أستطيع استعادة قُبلة واحدة من تلك القُبل، رغم أنني أجهدتُ نفسي في التركيز في تلك اللحظة، وودت أن أمسك الوقت معها وأشدّه كما شددتها إليّ وقبّلتها.
وجدتُ اليوم دفتراً صغيراً جدّاً تحت الكنبة، بعدما كنت قد ارتميت على الأرض أتلوّى من الألم. تلقّفته كأنه آخر بقايا العالم، وتصفّحته وكنت آملُ أن يكون قد كُتب عليه الكثير من الذي لم ننطق به. في الصفحة الأولى كان اسم حسابها على "الجيميل" ورمزه السري، كأنها فعلت ذلك لتتذكّره وهي تنشئه أوّل مرة. وفي الصفحة الثانية مفردات متناثرة، كانت على هذه الشاكلة: "تجنيد، منحة، رجل، محطّة، بيت وطريق".
في الصفحة الثالثة كلمات أُخرى مشطوبة لا يمكنني تمييزها. وأنا أقلب الصفحات سألتُ نفسي هل تَركته عن عمد؟ أم أنه سقط سهواً؟ هل تورّطتُ للتو في لعبة من تصميمها؟ أم أنها تدلني على الطريق؟
وبعد أن تَركتْ باقي الصفحات فارغة، كتبتْ التالي في الصفحة الأخيرة: "إنّني، وبطريقة ما يصعب شرحها، أكره الآخرين ولحسن حظّي أنني أسكن معك وأعرف أنك تكرههم أيضاً. لذا، ومن دون اتفاق بيننا، وجدنا أنفسنا قد وضعنا جداراً معنوياً في البيت، لا يجرؤ على تخطّيه أحد. وربّما لأشهر طويلة لم نتحدّث مع بعضنا البعض، وهذا ما جعلني أكثر كرهاً للبشر، حتّى أنني فكّرتُ مرّة ــ وخلتُ أنّك تريد ذلك أيضاً ــ أن أضع ملصقاً على باب الشقة أكتب فيه: نمْقُت البشر ولا نحب أن يُطرق بابنا.
ومع كل يوم أصحو فيه وأجدك تنظر عبر النافذة لتستعيد توازنك، أرغب في إخبارك أنّني لا أطيق وجودك حولي. يُجهدني أن أظّل مُداومة على مراقبتك. فعلت ذلك كلّ تلك الأشهر، ولا أودّ أن أعرفك أكثر. لا أودّ أن تنطفئ من حياتي وتصير مثل الآخرين. أريدك هكذا، كُرةً مشتعلة في صدري. لذا سأترك لك فراقي الذي سيتحوّل إلى جمرة متوهّجة كلّما تذكّرتَني، تحترق لتذيب صدرك كلّما تذكّرت أنني ما زلت أحبك.
لا تتبعني...".
* كاتب من العراق