السؤال السائد في الكتب والصحافة عامة هو: "لماذا نقرأ؟"، والحقيقة أنه ليس سؤالاً شعبياً في عالمنا العربي، وهو معضلة عصيّة لم تناقش على المستويات الوطنية قط، ولهذا فقد ظلّت في النطاق الثقافي وحده، واقتصرت على مديح القراءة (وهي جديرة بالمديح) والتشجيع عليها من قِبَل الكتّاب والشعراء والمفكّرين دون جدوى حقيقية. ولهذا فإن السؤال الذي يجب أن يُطرح هو: لماذا لا نقرأ؟
كان إيان وات قد بيّن في كتابه "نشوء الرواية" أن تَوَفُّر الوقت والنور مثلاً، إضافة إلى الوفرة البسيطة التي بدأت تتراكم من رأس المال، كانا من العوامل التي ساعدت على انتشار القراءة من جهة، ونشوء فن الرواية من جهة ثانية في إنكلترا القرن الثامن عشر. كانت النساء ـــ اللواتي تَوَفّر لهنّ الوقت بعد أن ارتحن من "الواجبات المنزلية من غزل وحياكة وخبز وتخمير وشموع وصابون، إذ صارت تُصنَع خارج المنزل، ويمكن شراؤها"، كما يقول وات ـــ هنّ مَن نهضن بمهمّات القراءة.
من الصعب استعادة تلك الشروط في بلد مثل سورية اليوم. ليس بسبب عدم توفرها، بل لسبب آخر أكثر خطورة، هو أنّنا نكاد نعود إلى ما قبل تلك الشروط. لا يمكن لعامل الوقت أن يكون مساعداً في تنشيط القراءة، بل إن الوقت زائد عن حاجة الناس جداً، وهناك بطالة هائلة تجعل مئات الآلاف يعيشون في وقت "ضائع" لا يعملون فيه أي شيء مفيد، إذ إنه وقت فارغ أجوف ومثقوب لا يمكن ملؤه لا بالقراءة ولا بغيرها، ولا يبحث الناس عنه في أيّة زاوية أو ساحة أو فضاء، ومن الصعب تعويض الزمن الضروري للقراءة في أوقات أخرى. إذا كانت الصناعة الحديثة قد وفّرت النور للناس، في حين كان من الصعب الحصول على الشموع للإضاءة بسبب غلاء أسعاره، فإن الحال هنا يعود بنا إلى ما قبل النور.
من الصعب استعادة شروط القراءة في بلد مثل سورية اليوم
تغيب كهرباء الإنارة في البيوت والأماكن العامة، وتغيب شروط التدفئة في الشتاء، أو التكييف في الصيف الحار، بسبب نقص الوقود، بل إن الشموع نفسها صارت غالية الثمن. وفي ظلّ الدخول الضئيلة المحدودة التي يلتهمها غلاء متوحّش ينال أسعار كلّ شيء بما في ذلك الكتب ـــ حيث يمكن أن يصل سعر النسخة الواحدة من أي كتاب إلى خُمس راتب موظّف، وفي ظل انعدام وجود مكتبات عامّة يمكن أن تغطّي حاجة القراء ممّن لا يستطيعون شراء الكتب، لا تستطيع القراءة أن تنشط.
ومن الغريب أن ينشط الكتّاب في الحقيقة، ولكنّ معظمهم يرتضي بالنسبة الأقلّ من القراء، آملاً أن يزداد عددهم ذات يوم. وبقدر ما يمكن للعوامل الاقتصادية أن تكون هنا معطّلة، فإن العوامل السياسية المولدة للقلق والخوف على الحاضر والمستقبل وانتشار السلاح والفلتان الأمني وانعدام أفق المستقبل أمام الناس هي من القضايا التي تدمّر رغبتهم في القراءة، أو استعدادهم لاقتناء الكتب.
"لماذا لا نقرأ؟"، حسناً، ها هي مكتبات بيع الكتب في سورية قد أخذت تغلق وتتحوّل لبيع أي سلعة أخرى غيرها، وثمة من يريد أن يطفئ تلك الجمرة الصغيرة الباقية لدى أولئك المغامرين الذين ما زالوا يشترون الكتب ويقرؤون.
* روائي من سورية