أجل، ظلَّ منجز الشاعر مجهولاً! فقد غطى إعدام فيديريكو غارسيا لوركا، في 19 آب / أغسطس من عام 1936 على أعماله، ومنحها صفتها الأيديولوجية الأبدية. تمرُّ هذا الشهر الذكرى الـ 87 لاغتيال هذا الشاعر المجهول رغم ذيوع اسمه في العالمين، كما تقول العرب. قُتل هذا الشاعر الغنائي الكبير مرّتين. مرَّة في تلك الحادثة التراجيدية البشعة على يد الكتائب الفرانكية، بداية الحرب الأهلية الإسبانية، حين أخذوه في الفجر إلى غابة الزيتون في ريف غرناطة، في مكانٍ مجهول بين قريتي فثنار وألفابار، وأطلقوا عليه الرصاص، كما تنبأ في إحدى قصائده النثرية الغريبة:
"أخذت إجازةً من أقرب أصدقائي للقيام برحلةٍ قصيرة ولكن دراميّة. فوق مرآة فضيّة أجدُ قبل الفجر الحقيبة والملابس التي يجبُ أن أرتديها في الأراضي الغريبة التي أتجهُ إليها. رائحةُ الصباح الباكر المتوترة والباردة تضرب بشكل غامض جرف الليل الهائل".
أخذوه يوم السادس عشر من آب/ أغسطس من بيت صديقه الشاعر لويس روزاليس، الذي كان قد اختبأ فيه، لأنّ عائلة روزاليس متنفّذة في المدينة. رواياتٌ كثيرةٌ كُتبت حول هذه الجريمة، كتبٌ كثيرةٌ اعتمدت وثائق وشهاداتٍ لأناسٍ عاشوا في تلك الفترة، ومنهم من شاهد لوركا وهو في محبسه قبل اغتياله بيومين. ولكن لا أحدَ استطاع الجزم بشيء.
كان نتاجاً أندلسياً كشجرة ياسمين، يقول نيرودا عن لوركا
آخر ما صدر عام 2011، هو كتاب "الثلاث عشرة ساعة الأخيرة في حياة فيديريكو غارسيا لوركا" للمؤرخ ميغيل كاباييرو Miguel Caballero. عكف المؤلّف ثلاث سنوات على هذا الكتاب الذي أعاد فيه بناء وقائع اللحظات الأخيرة من حياة لوركا، مُستبعداً الشهادات الشفوية، ومعتمداً على وثائق من أرشيفات الجيش والشرطة الإسبانية، وقد استطاع تحديد ستة أشخاص من المتطوعين أو الجند النظاميين، قاموا بإعدام لوركا وثلاثة أشخاص آخرين معهم.
تقول إحدى الروايات: "عُيّن خوسيه فالديس غوزمان حاكماً عسكريّاً لغرناطة، وكُلّف بقمع الجمهوريين من أساتذةٍ ومثقفين وثوارٍ. كان على اتصال دائمٍ برئيس الكتائب الفرانكية، الذي لعبَ دوراً رئيسياً في إيقاف لوركا وقتله مع آلافٍ من المنتمين إلى اليسار. تقول الوثائق التي كُشِفَ عنها أنَّ فالديس هو الذي أمر بقتل الشاعر بعدما استشار في مكالمة هاتفيّة قصيرة الجنرال غونزالو كويفو، الذي أجابه بجملة مُشفّرة هي: "اسقه قهوة... كثيراً من القهوة"، بما يعني أعدمه.
كان لوركا يحلم أن يموت ميتةً أخرى، يقول:
"عندما أموت
ادفنوني مع قيثارتي
تحت الرمال،
عندما أموت
بين البرتقال والنعناع".
وأُعدم لوركا ثانيةً عندما غُيّبَ كشاعرٍ، إذ غطّت حادثة الاغتيال على كامل منجزه الشعري، واختُزِل التعريف به إلى ذاك الشاعر التقدّمي الذي قتله الفاشيون لتعاطفه مع الجمهوريين. غُيّب الشاعر وراء الأيديولوجيا، والمفارقة أنَّ هذا التعريف الأيديولوحي هو الذي أذاع اسمه عبر العالم وجعله مُنتشراً بشكلٍ كبير.
لا يزال شبحه يرود إسبانيا ويثقل ضميرها إلى الأبد
تُرجمت أعماله إلى لغات كثيرة؛ ولكن، حتّى الآن، نُشرت صورةٌ خاطئة عن الشاعر اختزلته إلى مجرد شهيد للثورة ومتغنٍّ بأمجاد الجمهوريين. ولأنَّ هذا تعريف أيديولوجي، ومن خارج الشعر، فقد حجبَ جوهر وحقيقة منجزه الشعري والنثري والمسرحي الغزير؛ حجب لوركا الرسام ومؤسّس فرقة "البراكة" المسرحية، والمؤلّف الموسيقي (ألّف بعض القطع)، وعازف البيانو والغيتار، ومقدِّم حفلات موسيقية، وكاتب الرسائل والقصائد النثرية، التي لم تظهر إلّا في السنوات الأخيرة، إضافة إلى لوركا المنظِّر الشعري، وصاحب المحاضرات الكثيرة حول الأدب الإسباني من مقتربٍ رؤيوي حدسيٍّ إبداعي وأكاديمي يبتعد عن الأيديولوجيا.
لم يكن لوركا دارساً أو باحثاً يكتب حواشي وتفاسير وتعاليق. لوركا كأي مبدع هو نقيض السياسي والأكاديمي الذي ظلَّ موضع سخرية همنغواي وجورج لويس برخيس وغيرهما. ضمن هذا المعنى يجب البحث عن لوركا في نصوصه ورؤاه الشعرية. فعن الشعر، يقول: "لكل شيء سرّه، والشعر سرّ كلّ الأشياء" ويضيف: "أمضي إلى القصيدة كما أدخل إلى غابة مظلمة"، ويؤكد: "الشعر أيضا هو تعاملٌ مع المجهول".
جسّدَ في شخصيّته كل عصور إسبانيا الشعبيّة المُزهرة
ويجب البحث عن صورة لوركا في مرايا أصدقائه من الفنانين والشعراء مثل الموسيقي مانويل دي فالا، والسينمائي بونويل والرسام سلفادور دالي الذي رافقه في "بيت الطلبة"، وبابلو نيرودا الذي كتبَ عنه: "لم أعرف شاعراً مثله، اجتمعتْ فيه معاني السمو، والعبقرية والقلب المجنّح. هو شلال من كريستال، مشعٌّ مثل كوكب. ممثّلٌ كونيٌّ وقروي. موسيقيٌّ مذهل، يختزل في ذاته بشكل ما كل عصور إسبانيا الشعبيّة المُزهرة. لقد كان نتاجاً أندلسياً وعربيَّاً يضيء ويضوع عطراً مثل شجرة ياسمين".
اليوم لا يزال شبح لوركا الأسود يرود إسبانيا ويثقل ضميرها إلى الأبد.
■ ■ ■
نزوة
في شباك القمر
عنكبوت السماء
يصيد النجوم
المتطايرة
■ ■ ■
مقطوعة ليلية
أنظرُ إلى النجوم
في قاع البحر
آه، النجوم ماءٌ
قطرات ماء.
أنظر إلى النجوم
في أعماق قلبي.
النجوم عطورٌ
حبّ من خلاصة العطور.
أنظرُ إلى الأرض
مليئةً بالظلال.
■ ■ ■
قمرٌ مكتمل
عندما يطلع القمر
تضيع الصراصير
وتلتمع الدروب
المستحيلة.
عندما يطلع القمر
البحر يغطّي الأرض
ويشعر القلب
بأنّه جزيرة في اللانهائي.
القمر أكثر بعداً
من الشمس والنجوم
هو عطر وذكرى
وفقاعة شفق منطفئ.
■ ■ ■
ألوان
فوق باريس
القمر بنفسجيٌّ
ويصير أصفر
فوق المدن الميّتة.
هناك قمر أخضر
في كلّ الأقاصيص الخرافية،
قمر من شبكة العنكبوت
ومن بلور مكسور.
وفوق الصحاري
القمر عميق ومدمى.
لكن القمر الأبيض
هو القمر الحقيقي الوحيد
الذي يلتمع فوق المقابر
الهادئة في القرى.
■ ■ ■
هدهدة مارسديس الميّتة
ها أنتِ إذن نائمةٌ
مع قاربك الخشبي على حافة الشاطئ
يا أميرة الأبد البيضاء.
نامي في الليل العميق
جسداً من ثلج وطين
نامي في بياض الفجر، نامي.
وها أنتِ تبتعدين نائمةً
على امتداد الشاطئ
في قاربك الذي من ضباب وحلم.
■ ■ ■
رواق
الماء يدقّ طبله الفضيّ
الأشجار تنسج الرّيح،
والورود تلوّنها
بالعطر
ثريّا كبيرة تحوّل القمر
نجمةً.
■ ■ ■
غابة الليمون
يا أشجار الليمون
يا لحظة
من حلمي
يا أشجار الليمون
أعشاش من الأثداء أنت
صفراء فاقعة.
يا أشجار الليمون
يا أثداءً تفجّر
نسائم البحر.
يا أشجار الليمون
يا أشجار برتقال شاحبة
يا أشجار برتقال محتضرة
ونازفة.
يا أشجار الليمون
لقد رأيت حبّي منقصفاً
بضربة فأس واحدة.
يا أشجار الليمون
يا حبّي الطفل يا حبّي
يا من لا سند له ولا وردة
يا أشجار الليمون.
■ ■ ■
بلاد
فوق الموجة السوداء
تنام الأشجار
وأزهار اللؤلؤ
والخشخاش.
عبر الشارع الصغير الميّت
تمضي ثلاثة ثيران.
وفي الأزرق
العندليب
قلب الشجرة الحيّ.
■ ■ ■
قشعريرة
سيكون لي في الذاكرة
مع تذكار من الفضة
حجرة من ندى
وفي السهل الخالي من التموّجات
بحيرة صافية
ونبع جفّ.
■ ■ ■
محارة
لقد أهدوني محارة
فيها تغنّي
كلّ بحار العالم
والماء يملأ قلبي
بأسماكه الصغيرة
التي من ظلّ وفضّة.
لقد أهدوني محارة.
■ ■ ■
شمال
نجوم باردة فوق الدروب
حركة ذهاب وإياب
عبر غابات الدخان.
وبيوت القشّ تتأوّه
تحت ضوء الفجر الأبديّ.
ضربة الفأس
أرعشت الوادي والغابة
ارتعاشة مياه البركة
ضربة الفأس!
■ ■ ■
جنوب
جنوب. سراب. انعكاس
سيان أن نقول
نجمة أو برتقالة
سماء أو مسيل
آه السهم،
السهم!
ها هو الجنوب:
سهم ذهبيٌّ
بلا مرمى، وفوق الريح!
■ ■ ■
شرق
إيقاع القمر النازل
نحو الجنوب
(بدرجات مترابطة).
■ ■ ■
غرب
إيقاع القمر الصاعد
نحو الشمال
(متلوّناً).
* شاعر ومترجم من تونس