مرّت أيامُ كأس العالم في قطر بخير ونجاح، وهذا تحقيقٌ لأجمل الأماني وأسماها، وإنجازٌ مذهل لدولة صغيرة حالمة. لكن، لا بدَّ من التأمُّل في جوانب بدت لي مهمّة أثناء مشاهدة بعض من المباريات، وقد شاهدتُها أحياناً بتعليقٍ عربي، وأُخرى بتعليق إنكليزي.
أمّا التعليق العربي - وهو موضوع هذه المقالة - فهو من طراز غريب وعجيب تأخذ المبالغة حصة كبيرة منه. وقبل أنْ أستطردَ لتوضيح الأمر، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ التعليق باللغة الإنكليزية على القنوات الكبيرة المتخصّصة، مثل "بي بي سي" كان جيّداً من الناحية الرياضية البحتة. أمّا من الناحية الثقافية، فقد كان مدجَّجاً بالتحامل على قطر وثقافة هذه البلاد العربية، وعلى كلّ صغيرةٍ وكبيرة تتعلّق بها، بطرُق تنمُّ عن جهلٍ وفوقية فارغة ومقيتة.
لكن، إذا ما عدنا إلى تعليق المعلّقين العرب أثناء المباريات فوصل إلى مستوى الصراخ المزعج، والتكرار المبتذل لجمل ليس لها معنى، والمبالغات الرنّانة.
كأنّ المعلّق العربي يريد نفخ الوقت والهواء بأي كلام
للأسف، لا تبدو اللغة العربية المذهلة جميلةً وعميقة وسلسة وأنيقة من أفواه هؤلاء المعلّقين. ولا أقصد باللغة الناحيةَ النحويّة، والتي تبدو خشبيّة ومثالية بشكلٍ فظ أحياناً، بل أقصد ناحيةَ المضمون والتعبير والتواصُل بشكلٍ عام. ولعلّ الأمر يعود إلى ثقافة التعليق الكروي في العالم العربي: فهو في جلّه، كما ظهر على قنوات رئيسية تبثّ هذه المباريات، غيرُ عقلاني، وغير منطقي من ناحية طرح الأشياء، ولا يقوم على مخاطبة المشاهدين والتفاعُل معهم من خلال أفكار ومشاعر مترابطة ومتّزنة، ويصل إلى الخروج عن الحدث الكروي نفسه والتغطية عليه. التعليق بالصوت العالي والبهرجة الكلاميّة الرنانة هو إزعاج، لا غير.
اللغة، طبعاً، هي للتواصل، وللوصف، والشرح، والتحليل، والسموّ الفنّي، وللتبادل بشتّى أشكاله، ولإثارة الحماسة، وغير ذلك. كلُّ هذه الأشياء لها مكانها. ولكنها حين تُستخدم على طريقة الصراخ والثرثرة والتكرار المملّ تفقد قيمتها الجوهرية. وحين تُستخدم للتجهيل، فهذا يصل إلى مستوى الجريمة: "المجانين عادوا، فليسقط العقلاء" قال المُعلّق أثناء المباراة الأخيرة.
خطرَت على بالي كلمة عامية من لهجتنا وهي "الجعجعة" وأنا أستمع للتعليق العربي أثناء سير المباراة، فالمعلق "يجعجع"، قائلاً كلّ ما يخطر على باله غير المروّض وغير المتزن من غثّ وسمين، ولا ينتبه إلى أنّ المفروض أن يكونَ في مزاج تواصلي وتفاعلي وحماسي بقدرٍ معقول مع جمهور كبير في العالم العربي، وربما أبعد من ذلك.
بدا الأمر كأنَّ المعلّق العربي يريدُ نفخ الوقت والهواء بالصراخ والكلام الفارغ من محتوىً ملائم لما يجري على أرض الملعب، بينما التعليق الشيّق هو الذي يقوم على تواصُل وتوصيل معلومات بطرق عقلانية وسلسة ومثيرة حين يحتاج الأمر إلى ذلك. فهناك لحظات في بعض المباريات (مثلما حدث بين الأرجنتين وفرنسا في الدقائق العشر الأخيرة من الوقت الأصلي) تحتاجُ إلى تفاعل لغوي مثير وكبير، ويشمل ذلك الصمت، وذلك بحجم الإثارة التي تطرحها أحداث المباراة. لكن لا يجب أن يكون هذا على حساب احترام عقل وعاطفة المُشاهدين، والتي هي بلا شكّ عواطف وعقول متعدّدة بحسب تعدّد الأذواق والشخصيات.
ولماذا لا يقوم بهذا التعليق أكثر من شخصٍ واحد، بحيثُ يكونُ هناك حوار وتفاعل بين عدّة أشخاص بأسلوب سلس؟ هنا قد تكون اللغة حالة بنّاءة تعكس روح الجماعة التي تمثّلها لعبة كرة القدم، بدلاً من التقوقع في شخصٍ واحد يصرخ على كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ، ويتعامل مع اللغة كأنّها سوق مشاعة بلا ضوابط منطقية وجماليّة.
التعليق الرياضي هو أيضاً فرصة للتثقيف حول بلدان ومدن وخلفيات اجتماعية وسياسية واقتصادية لأفراد وفرق من مناطق مختلفة من العالم، أتى منها لاعبو هذه اللعبة الأسطورة.
* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن